الوطن أغلى من الرئيس، والموقف يتقدم على الحزن، والمنصة تنتظر “اللبنانية الأولى” لا أرملة الشهيد.
من أجل هذا فلا بأس من “خرق” بروتوكول الكنيسة الذي لا يرحب بالمرأة متحدثة. فلقد انتهكت حرمات أغلى بكثير وأقدس من مبنى اصطنعه الناس مكاناً للتجمع والصلاة.
خصوصاً وإن سيدة الحزن النبيل، نايلة معوض، لم تقف لتؤبن زوجها المغدور بوصفه راحلاً عزيزاً، بل لتؤكد إن الرسالة لم ترحل وإن العهد باق، وإن الوحخدة التي استهدفها رصاص المجرم لم تسقط ولن تموت.
في تأبين “الرئيس الشهيد” أطلت على الناس نايلة معوض في صورة مشروع زعيم، وأعادت بكلماتها – كلماته الحاسمة توكيد موقع زغرتا في الوطن الواحد المقاوم خطط التفتيت والتجزئة والتوطين والتقسيم. وتوكيد موقع الوطن الواحد على جغرافية دنياه العربية وتاريخها المهدد بالتشويه والتزوير والتزييف المفضوح.
لم تهاجر زغرتا ولم تهجر ذاتها ملتحقة بالذين سفحوا دماء الأكرم والأبرز من قادتها وبنيها، وأكدت بلسان زعامتها الجديدة – القديمة أن الطائفة في الوطن ومنه وليس الوطن في الطائفة ومنها.
الحزن يظهر النفوس ويستولد صفاء الرؤية. وزغرتا المتشحة بالسواد لا يلتبس عليها أمر الحاضر ولا أمر المستقبل، لا تبحث عن المجرم بل تسميه وبرتبته العسكرية. ولا تقبل غير “جمهورية الوفاق الوطني”، “جمهورية اتفاق الطائف”، “جمهورية رينيه معوض” الواحدة الموحدة وطناً ودولة.
وزغرتا ستخرج شاهرة حزنها إلى العالم تطالبه بحماية الجمهورية طالما تعذرت حماية رئيسها ستطوف نايلة معوض بدم الشهيد على العواصم القريبة والبعيدة، بدءاً بدمشق مروراً بعواصم اللجنة الثلاثية وصولاً إلى الفاتيكان وانتهاء بباريس وواشنطن.
سترفع صوتها باسم القتلة، قتلة الجمهورية والرئيس، وستشهد المراجع الروحية والسياسية على موقف وادي قنوبين العرين الأول للمارونية في لبنان والحصن المنيع لجمهوريته الواحدة.
في موكب العزاء تراصفت الشرعية الثانية للعهد الأول في الجمهورية الجديدة مع اللجنة العربية الثلاثية، وبدا الجميع ضحايا وأصحاب ثأر.
على هامش زيارة الأخضر الإبراهيني الخاطفة، والحافلة بالمحاورات والمساجلات، يمكن التوقف أمام بعض النقاط التي أثيرت وبقيت بغير جواب.
** منها على سبيل المثال لا الحصر العلاقة الجدلية بين الشرعية وحكمها الوليد وبين اللجنة العربية : من يدعم من؟! من يقوم بالخطوة الأولى؟ من ينتظر من؟!
كان الاتهام، ولو ضمناً، متبادلاً : – كنا ننتظر أن تبادروا، أن تتحركوا أن تتحول التعهدات والوعود والتصريحات إلى إنجازات مادية.
لسان حال الحكم، برئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، إن اللجنة التي تعهدت بالكثير لم تقدم بعد أقل بقليل،
ولسان حال اللجنة الثلاثية إن الحكم المطالب بالحركة السريعة والقرار الحاسم والمبادرة النشطة، قد تردد أو تباطأ أو أرجأ فبدا مرتكباً واهتزت صورته في عيون شعبه كما في عيون الدول.
على إن الطرفين متفقان على إن الوقت ثمين جداً وأغلى من أن يضيع في المشاورات ومراعاة الخواطر والتدقيق في الحسابات المحلية الصغيرة.
كذلك فإن الطرفين متفقان على إن هدر الوقت أو ضياعه قد تسبب في تحول “المشكلة” إلى “حالة”، والمشكلة لها حل أما الحالة فتستوجب علاجاً،
ثم إن الطرفين متفقان على إن ثمة تقصيراً ولا بد أن ينتهي، وعلى إن الالتزام بمواقع الدفاع وترك زمام المبادرة بالهجوم للتمرد الانفصالي خطأ فادح لا بد من تفاديه والخروج من أساره المربك.
** ومن تلك النقاط، على سبيل المثال أيضاً : تدارك المخاطر التي قد تقود الجميع إليها مغامرة التمرد الانفصالي.
فهم التقسيم يفرض نفسه أيضاً على اللجنة العربية الثلاثة وإن كان يقينها إنه مستحيل، في ضوء فهمها للواقع اللبناني وللوضع العربي بمعطياته الراهنة وكذا في ضوء ما سمعته من كبار المسؤولين في عواصم القرار وسائر الدول المؤثرة والمعنية بالشأن اللبناني.
لكن ثمة من حاول التفريق بين التقسيم كمشروع سياسي له قواه التنفيذية في الداخل، وقواه الداعمة والحامية في الخارج، وبين الأمر الواقع الانقسامي القائم على الأرض وسبل علاجه من ضمن مسؤولية الدولة، دولة لبنان الواحدة الموحدة، ومسؤولية القمة العربية واللجنة العربية العليا المنبثقة عنها، كما من ضمن مسؤولية المجتمع الدولي.
وكان الأخضر الإبراهيمي مع الرأي القائل إن مسألة بهذه الخطورة تستحق أن تلتقي لبحثها اللجنة العربية العليا، فتفر خطة لتنشيط جهدها وتزخيم فعالية الشرعية اللبنانية وقدراتها المادية على مواجهتها.
بقي ألا يطول، مرة أخرى، زمن الانتظار، فتلتقي اللجنة – متى التقت – لتبحث في النتائج المفجعة وليس في السبب الذي كان عليها أن تعالجه حتى لا ينجب مثل تلك النتائج!
** ومن تلك النقاط، على سبيل المثال أيضاً: هل لطائفة بالذات حق الفيتو على مشروع الحل المقترح، وأي مشروع حل، لأزمة لبنان؟!
وكان الرد بالايجاب، فطالما إن اتفاق الطائف هو صيغة سياسية لتسوية أمر السلطة وعلاقتها بالطوائف، فمن حق كل طائفة ممارسة حق النقض أو “الفيتو”.
وتساءل الأخضر الإبراهيمي: هل ما تمثله حالة التمرد يعكس موقف طائفة بكاملها، أم إنه موقف سياسي لفئة من طائفة، بقدر ما إن المواقف التي صدرت عن بعض السياسيين الآخرين (من الشيعة والدروز، مثلاً) تعبر عن مصالح أطراف سياسية معينة أكثر مما تعبر عن مواقف الطوائف التي ينتمون إليها؟!
وكانت الخلاصة: إذا أجمعت طائفة على رفض اتفاق الطائف يصبح هذا الاتفاق في ذمة التاريخ ويكون ضرورياً المباشرة بالبحث عن بديل يصلح لأن يكون أساساً للحل.
أما إذا كان في كل طائفة تيار رافض يواجهه تيار مقتنع باتفاق الطائف فهذا أمر منطقي ومفهوم، فالتوافق لا يرضي أحداً بشكل مطلق. إنه يفرض تنازلات متبادلة.
وقد يرفض البعض التنازل، وقد يتحفظ البعض، ولكن هذا لا يسقط صيغة التسوية بل هو قد يحصنها بالمناعة الضرورية، ويقدمها كمحصلة للصراع السياسي في طور من أطواره.
على إن الشرط اللازم لاستنقاذ اتفاق الطائف هو أن يكتسب الحكم صورته الطبيعية كمؤسسة توحيدية حازمة، حاسمة، قادرة ومبادرة على مدار الساعة وفي كل مكان، داخل لبنان وفي الخارج.
ولقد اعترف بعض أهل الحكم إن هذه الصورة ما زالت غائبة، أو مهزوزة.
هناك رئيس للجمهورية، وهناك رئيس لمجلس الوزراء، وهناك وزراء ولكنهم حتى هذه اللحظة خطوط متوازية، أو كتل مرصوفة إلى جانب بعضها البعض، أو إنهم “آحاد” يجلسون متكاتفين من حول طاولة واحدة، ولكنهم يفتقدون روح المؤسسة الجامعة.
ولعل جلسة التعيينات (يوم الخميس الماضي) قد فضحت هذا الواقع المر، وإن كانت قد انتهت بتسويات عشائرية، تحفظ ماء وجه الحكم عبر مؤسسته – الأم : مجلس الوزراء.
لقد سمى كل من “الآحاد” من يريد وأين،
ومنعاً للمناقشة التي قد تكشف العورات، عمد كل من “الآحاد” إلى ادعاء حقه بالنطق باسم طائفته في ما يخصها من التعيينات الماروني يسمي الماروني، والشيعي يسمي الشيع، والدرزي الدرزي والسني السني، والأرثوذكسي الأرثوذكسي وهلمجرا.
لا مفاضلة بالكفاءة، ولا مشاورة لأهل الحل والربط (من الغائبين) بل لعلها فرصة لاختلاس بعض المناصب في غيابهم.
هكذا كان، بغض النظر عن التقييم النهائي لمن عين من موظفي الفئة الأولى وفيهم من هو جدير بأعلى المناصب: “شيلني وأشيلك وأنا برضه فرحت لك”، كما يقول إخواننا المصاروة، أو “هات وخذ” كما يقول أهلنا اللبنانيون، أو مشي لي فامشي لك، فإذا اعترضت على “جماعي” استخدمت حقي بالفيتو ضد جماعتك.
.. وحرصاً على سلامة مجلس الوزراء، وإنجازه الضروري، فقد تم التوافق دون أن يلغي ذلك الحد الأدنى من تحفظات “الآحاد” على تسمية زملائهم “الآحاد”.
في رأي البعض إنه من الضروري أن يمر بعض الوقت قبل أن يتألف “الآحاد” فيتحول مجمعهم إلى مؤسسة تحتوي وتتضمن وتصهر مصالحهم جميعاً عبر قرارها الموحد.
وفي رأي البعض الآخر إن المهم الإنجاز، أما الملاحظات عليه فتسجل ثم تعالج أو يتم تداركها لاحقاً.
وفي رأي بعض ثالث إن السكوت عن العيب يسمح بتماديه بحيث يتحول إلى قاعدة.
أما المتطرفون فيذهبون أبعد من ذلك كله ويقولون: إن الجمهورية الجديدة فقدت وهجها مع اغتيال رئيسها الأول رينيه معوض، وإن شرعيتها المؤكدة تخسر الكثير من زخمها إذا ما فقد الحكم صفة “الاستثنائية” وتحول إلى حكم عادي فيه كل عيوب الحكم التقليدي في لبنان،
وبالطبع فإن حكماً عادياً لا يستطيع مواجهة أوضاع استثنائية في خطورتها تتهدد وحدة لبنان ومصير دولته.
.. ولا تستطيع اللجنة العربية أن تقدم شيئاً للمساعدة، في هذا المجال!
ماذا تراها تستطيع أن تقدم؟
بعض الجواب سيكون في تقريرها الذي يفترض أن يصدر في أعقاب اجتماعها المقرر اليوم في ا لجزائر.
لكن ما ينتظر منها فعلاً فسيبقى خارج التقرير وخارج قدرة وزرائها الثلاثة على البت، لأنه يحتاج تواقيع ملكية بألقابها المفخمة ذات الرنين.
وليس سراً إن الدعم الفعلي المنتظر والمتوقع والمطلوب من اللجنة العربية العليا، وهو دعم مادي على شكل مساعدات مالية وعينية (لاسيما في النطاق العسكري)، يمكن أن يعزز صورة الحكم بالقدرة، ويمكن أن يصهر “الآحاد” في “المؤسسة” بالمصلحة.
وسيظل الحكم عادياً طالما ظلت قدراته المادية (ومنها العسكرية) تحت العادية في حين إن واجباته ومسؤولياته والمواجهات المفروضة عليه فوق العادية.
فإذا ما جاءت تلك المساعدة استوى سياق النقاش، وتوفرت قاعدة جدية لمحاسبة الحكم.
أما في غيابها فمن يحاسب من، في حين لا يملك أحد أن يدفع فاتورة الحساب؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان