قاسية هي الذكرى، على مجدها، وقاطعة كسكين مسنونة هي المقارنة بين اليوم وذلك الصبح الأغر قبل تسع عشرة سنة، السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973.
لكأن الفلك قد دار بالعرب دورة كاملة، فأنزلهم من أعلى عليين إلى الدرك الأسفل، قلب تضامنهم الصلب والفاعل إلى فرقة وصلت إلى حد الاحتراب وهي تنذر الآن بمزيد من شرور الاقتتال، ومسخ نصرهم المؤزر هزائم متوالية جعلتهم يغرقون في حماة الخيبة والمرارة والإحباط فيضيعون عن أحلامهم وتضيع منهم طموحاتهم بل وحقوقهم الطبيعية،
لكأنها كانت التماعة برق وكانوا يريدونها فجراً جديداً لعصر عربي جديد، تصنعه الإرادة الواعية وشجاعة القرار وصلابة هذا الإنسان المشوق إلى تحقيق ذاته بالانتصار على ظروف قهره وتخلفه أولاً، ثم على عدوه القومي،
لكأن العرب غير العرب…بل لكأن “العرب” قد انقرضوا، فجأة، غير ثغرة السادات، فذهبت ريحهم ودالت دولهم، لولا هذه القلعة الأخيرة في دمشق التي تبقى رمز صمود مجلل بدم الشهادة ومعزز بتلك الكلمة المقدسة “لا”، لا للاستسلام ، لا للتفريط، لا للصلح المنفرد،
هل سحقتنا الهزيمة بحيث بتنا ننكر حتى انتصارنا اليتيم حتى لا نحمل وزره، وبمفعول رجعي؟!
وهل يجوز للعرب أن ينسوا كم أن تضامنهم فعال حتى ليصنع المعجزات، ونصر السادس من تشرين (أكتوبر) أو (العاشر من رمضان) أعظم من أن يطمس أو يهمل أو يسقط سهواً أو يغيب عن الوجدان العربي،
التضامن طريق النصر، والفرقة ولادة الهزيمة بقدر ما هي ثمرتها، والعلاقة بينهما هي علاقة السبب بالنتيجة وعلى الخطين.
لا مجال للاستمرار في الهرب من الحقيقة: فليس للعرب غنى ولا بديل عن التضامن العربي، ولو بالحد الأدنى.
إن التنكر للعروبة قد أدى إلى كوارث قطرية أولاً، وبالتالي قومية.
وصدام الكيانيات العربية الحق بالكيانيين أضراراً فادحة لا يمكن التعويض عنها بالادعاء إنها “أقل” مما نسببت به الاتجاهات التي أسغبت على نفسها صورة العمل الوحدوي. (وهذه حرب العبور شاهد حي لا يموت)…
ومحاولات التجمع الجهوي، على قاعدة تهريب الثروة من هجوم محتمل للفقراء، تهاوت بالكرتون أمام “عاصفة” الغزو العراقي للكويت، ولم تنفعها – بالمقابل – “عاصفة الصحراء” الأميركية في استعادة توازنها،
بل إن التداعي الأخطر واضح النسب فهو بعض النتائج المباشرة لعودة سياسة القبول بالحماية الأجنبية،
ولعل أهل الخليج عموماً قد باتوا أكثر يقيناً اليوم منهم بالأمس في أن الأجنبي “لا يحمي” إلا مصالحه، وإنه قد يأتي بالفتنة ليبرر وجوده واستمرار هيمنته واستنزافه للثروات العربية ولكنه ليس “رسول سلام” ولا هو “حصن أمان”، وليس “مرتزقاً” – كما توهم بعض الكويتيين، إبان محنتهم فقالوا: “إنما حررنا الأميركان بفلوسنا” – يكمل مهمته فيقبض أجره وينصرف.
والتحالف مستحيل بين الأقوى إطلاقاً في العالم والأضعف، بكل المعايير،
والعلاقة الندية أو المتكافئة أو المقبولة والتي لا تشكل امتهاناً للكرامة (الوطنية والشخصية قبل القومية) مستحيلة هي الأخرى، فليست الدول الكبرى جمعيات خيرية، والمصالح من طبيعة باردة كالثلج لا دور فيها للعواطف والصداقات والود المقيم.
كذلك فإن تجمع بعض الكيانيات لمواجهة كيانيات أخرى ينتهي بالكل عند الأجنبي، ومن ثم عند الإسرائيلي،
لا مناص إذاً من التضامن العربي، لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من مقومات الوجود العربي، ومن حق القرار في المصير العربي،
وها هي المحن المتوالية على أبناء الخليج العربي تظهر كم هي ملحة الحاجة إلى حد أدنى من التضامن العربي حتى لا تتصادم الكيانيات (الغنية) بما يتسبب في إيذاء كل طرف على حدة، ثم الكل مجتمعين، وبالتالي الأمة جميعاً.
إن المحن هي المعلم الأعظم،
وما من شك في أن خطيئة صدام حسين قد تسببت في كارثة قومية مريعة ستظل الأمة مرتهنة لنتائجها البشعة ولتداعياتها الأكثر بشاعة لجيل وربما لجيلين،
لكن تلك النتائج ذاتها قد علمت الجميع في جملة ما علمتهم أن الأجنبي لا يحمي أحداً، وإن كلفة الحماية تكاد تعادل كلفة “الغزو”،
وكيف يطلب من المحامي الأجنبي أن يحفظ الكيان (وحدوده) والكرامة الوطنية (ومعها السيادة!!)، والثروة الهائلة (التي ما جاء إلا ليستحوذ عليها بالكامل)؟!
إن المرارات ثقيلة الوطأة ومعطلة للبصر والبصيرة،
وقد آن أن يتخلص العقلاء من عبء مرارات الأمن الأسود لكي يستطيعوا التعامل مع مخاطر اليوم واستنقاذ الغد،
والتضامن العربي هو الطريق لتخفيف قبضة الحامي الأجنبي، مع ضمان لجم نزوات بعض الحكام العرب المهووسين أو العاملين في خدمة ذلك الأجنبي ذاته،
والغباء أو قصر النظر ليس عذراً مقبولاً في محكمة التاريخ.
إن الخليج يرتج الآن، والقلق على مصيره مشروع ومبرر وحيثياته ظاهرة تكاد تدمي العيون (والقلوب).
والعواصف تهب عليه من خارجه (كما في حالة الاعتداء الإيراني على دولة الإمارات العربية المتحدة)، ومن داخله (كما في حالة التحرش السعودي بدولة قطر)… هذا من دون أن ننسى مخاطر الوجود الأميركي (الحامي) ذاته!!
ولقد تبين أن مجلس التعاون الخليجي لا يرهب طامعاً خارجياً ولا يصد شقيقاً مستقوياً ومتجبراً… بل وليس له وجود، كمؤسسة، بدليل أن الوساطة التي طرحت إنما كانت كويتية وليس باسم مجلس التعاون أو بتكليف منه، في حين لو كان مثل هذا المجلس مؤسسة مستقلة وفاعلة لكان فرق الدول الأعضاء فيه وأقوى – معنوياً – من أي دولة عضو فيه لأنه يمثل المجموع ويتحدث باسمهم جميعاً.
أي أن جامعة الدول العربية، المتهالكة والمتصدعة الأركان، ما زال لها من الحضور الرمزي والتأثير المعنوي ما يفوق ما لهذا المجلس الذي أنشئ بقرار همايوني فرضته الأثرة وجعلته انفصالاً عن “الأخوة الفقراء” فلما جاءت المحنة لم ينفع في حماية أعضائه “الأخوة الأغنياء” لا من اعتداء الغريب ولا من طمع الشقيق… الأغنى!
وإذا أمكن التخفف من مرارات الغزو العراقي للكويت، فإن بالإمكان إعادة شيء من الروح إلى الجامعة العربية يمكنها من لعب دور “صاحب المساعي الحميدة” و”الساعي بالخير” بين الأشقاء أو بينهم وبين جيرانهم الأقربين.
ولعل الشيخ زايد بن سلطان، وهو المبرأ من الغرض والأطماع والذي حفظ الود مع الجميع ووقف مع كل دولة عربية في محنتها، كما وقف مع العرب مجتمعين وكان حادي تضامنهم، يستطيع اليوم أن يلعب دوراً متميزاً في بعث التضامن العربي.
وفي كتاب 6 تشرين (أكتوبر) صفحات مشرقة عن الشيخ زايد بن سلطان ومواقفه القومية التي أكدت صدق التوصيف الوجداني الذي يعطي عادة للعروبة.
الآن، ووسط ليل المحن التي استحالت هزائم، يمكن للشيخ زايد أن يكون المبادر إلى العمل لإحياء التضامن العربي، ليس فقط لكي يتحصن به في بلاده المهددة، وإنما لكي يساعد في درء أخطاء قاتلة تنذر بها الغيوم السوداء التي تتجمع الآن في سماء الخليج العربي.
فهل من سبيل لاستعادة “روح تشرين”؟!
هل من سبيل لاختراق ليل الهزيمة، ومحاولة اللقاء خارجها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحاضر العربي، ومن بعده المستقبل والمصير؟!
ودمشق، ومعها القاهرة، لن تتأخرا عن تلبية نداء التضامن، وكذلك سائر العواصم التي تفتقده الآن وبينها بيروت لبنان وطرابلس ليبيا وصنعاء اليمن إضافة إلى فلسطين الأسيرة والمطروحة الآن للتصفية.
هل من أمل باستفاقة عربية، قبل فوات الأوان؟!
هل من أمل في السابع من تشرين؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان