من “أيلول الأسود” إلى “كانون الأزرق” يتابع العرش الهاشمي مسيرته التي اتسمت دائماً بالاضطراب واصطبغت دائماً بالدم، دم الأسرة الملكية كما دماء خصومها ومعارضيها الكثر.
من “أيلول الأسود” إلى “كانون الأزرق” ربع قرن من الزمان هي المدة التي كانت ضرورية لتدجين عمان، التي تحوّلت بمصادفة قدرية من قرية قليلة السكان وسيئة الموقع الجغرافي إلى عاصمة لدولة استولدت على عجل من أجل مهمة ستشكل من بعد علة وجودها (وبمفعول رجعي)..
ولا بد أن سكان عمان الذين جرحت عيونهم، أمس، الخرقة ذات الخطين الأزرقين وفي قلبها النجمة السداسية الشهيرة، قد ساءلوا أنفسهم وعاصمتهم: هل نحن نحن، وهل نحن في الموقع الصحيح وعلى الطريق الصحيح نحو ما كنا نقصده؟!
فأهل عمان، وسائر الأردن، لا بد أن يستذكروا ، ولو بشيء من الحسرة، أن العاصمة التي رشحها الزخم الثوري ذات يوم لأن تكون “هانوي العربية” أي القاعدة والحاضنة للكفاح المسلح من أجل تحرير فلسطين قد تهاوت لتصير العاصمة العربية الثانية التي يرتفع فيها العلم الإسرائيلي كشهادة على سقوطها في أسر مرشح لأن يكون طويلاً.
وكما أن رفع “نجمة داوود” في سماء قاهرة المعز لم يكن دليلاً على ازدياد أهمية مصر أو على تعاظم دورها، بل كان على العكس من ذلك تماماً: إشارة إلى تلاشي القاهرة كمركز قيادة وريادة للوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم الثالث، وانعدام دورها خصوصاً بعدما تزايدت حفلات الإهانة والامتهان المقصود الموجهة إليها،
كذلك فإن ارتفاع الراية الإسرائيلية في سماء عاصمة العرش الهاشمي لن يزيد من قيمة عمان أو من دورها، لا على المستوى العربي، ولا على الصعيد الدولي، بل هو سيحوّلها إلى “محمية” إسرائيلية أخرى، وإلى ضاحية من ضواحي “المركز” ، لا هي مصدر القرار ولا سببه، ولا هي البداية ولا هي النهاية، ولا هي محطة التحويل، وإنما مجرد ملحق تخضبه الشعارات الملكية وتملأ ساحاته شعارات “الله، الوطن، الملك”، في حين أن السلطة في مكان آخر… عبر النهر والجغرافيا والتاريخ، ولاسيما تاريخ الأسرة الهاشمية ذاتها.
إنه عبء يضاف إلى العبء الأصلي،
فالعاصمة التي أريد لها، ذات يوم، أن تكون التعويض عن فلسطين المضيعة، لا تستطيع أن تعيش إلى الأبد المفارقة التي تحكمها الآن: القلب الفلسطيني والذراع شرق أردنية والرأس “هاشمي” لا يتعصب للمكان… يطلب الحجاز، فإذا تعذر قبل بسوريا، فإذا استحال أخذها ارتضى بالعراق، فإذا خلعته بغداد قنع بالغنيمة “شرقي النهر”، مقيماً عرشه على قاعدتين من البشر الذين لم يعرفوا الدولة، البدو والشركس، ودائماً تحت ظل الأكثر قوة ودهاء من بين الطامعين بالمنطقة أو المهيمنين عليها.
قد يسهل الأمر على “الشعب الفلسطيني” في “المملكة الأردنية” أن “قيادته الثورية” – سابقاً – ارتضت غزة بديلاً من فلسطين، وأنها سبقت إلى التوقيع وإلى التسليم بأن “تحكم” من داخل السلطة الفعلية الإسرائيلية، وباسمها إلى حد كبير،
لكن الملك المسكون بهم العرش يعمل لتوفير ضمانات مفتوحة لذريته، من بعده، أخطرها وأهمها أن يسلم “الفلسطينيون” داخل فلسطين وخارجهلا، أن “دولتهم” الفعلية هي إسرائيل ، وأنهم هم مجرد رعايا من الدرجة الثانية في كيانين هزيلين مؤقتين ومفلسين يخضعهما الحديد والنار لسلطة داخلية لا تمثلهم تماماً ولا قدرة لهم على خلعها ولا مرجع للتظلم إلا… العدو الأصلي، وقد باتوا الآن أعجز من أن يقاتلوه مباشرة.
لقد زادت الحواجز حتى صار قتال العدو يقتضي مسلسلاً لا ينتهي من الحروب الأهلية العربية – العربية، والفلسطينية – الفلسطينية.
لم يعد ممكناً إسقاط الراية الإسرائيلية إلا بإسقاط “الحكم الذاتي” الذي أمر برفعها واستظل بها، بوصفها مصدر الأمان.
ومن الصعب على “الفلسطيني” أن يخسر “كيانه الأردني” وهو غير واثق من أن “كيانه الفلسطيني” قيد التأسيس فعلاً.
إنه لا يستطيع أن يقبل بدور “المعارض” للنظام، وفي الوقت نفسه يعجز أن يكون “بديله”.
كذلك فهو لا يستطيع أن يكون “مواطناً” في الدولة التي أزالت وطنه،
ثم إنه لا يقدر أن يتابع من موقع المعارض للشرطة المحلية نضاله لتحرير أرضه من قوة الغزو الخارجي التي توطنت وصارت هي “الدولة” وهي مصدر حماية حكامه الثانويين.
هل سيحل العلم الإسرائيلي مشكلات عمان المزمنة أم أنه سيكون مصدراً جديداً لمشكلة أعظم خطورة من كل ما عرفت في ظل عرشها الذي كان على الدوام مهدداً؟!
أغلب الظن أن عمان لن تعرف بعد ارتفاع العلم – العورة فيها طريقها إلى الاستقرار، ولا خاصة إلى الرخاء والنهوض الاقتصادي.
فإسرائيل تريد “الفلسطيني” تابعاً بغير تمويه.
التوقيع الفلسطيني هو ما يعنيها، الدور الفلسطيني، التأثير الفلسطيني، الوهج الفلسطيني… ففلسطين كانت وستبقى هي القضية، لا الأردن ولا العرش الهاشمي.
التوقيع الأردني مكسب، خصوصاً وأنه لم يكلف الكثير،
لكن الموضوع فلسطيني بداية وانتهاء: وهو قد بقي قائماً بعد التوقيع المصري، وسيبقى – كما الجرح – مفتوحاً بعد التوقيع الأردني، لاسيما وأن توقيع “قائد الثورة الفلسطينية” سابقاً، لم ينجح في أن يطوي الملف وينهي الصراع.
العلم الإسرائيلي في عمان يزيد من فلسطينيتها ولا ينقص منها،
لكنه في الوقت ذاته يحسم من أهمية العرش الهاشمي ودوره ولا يضيف إليه.
إنه إعلان جديد عن أن الصراع سيبقى مفتوحاً في الأرض كما في السياسة، في الاقتصاد كما في الأمن، في المجتمع كما في الثقافة، أكثر بكثير مما يقدر الخبراء أو الحكام المتعبون الذين لا ينفكون ينتقلون من خازوق إلى خازوق أكبر… طلباً لراحة قصيرة بين الخازوقين،
وشتاء عمان البارد سيغدو بعد اليوم أعظم صقيعاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان