لم تكن مصادفة إن العلاقة العملية بين “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، والتي بلغت في بعض الحالات مستوى “رابطة الدم”، لم تتحول إلى تحالف سياسي بأفق وطني شامل، وعلى قاعدة برنامج واضح ومعلن يحدد المهام والأولويات واسس التلاقي والتعارض مع القوى السياسية المختلفة، وصولاً إلى الموقف من الحكم والنظام و”الصيغة” العتيدة والمفتقدة، بعد.
ولم تكن مصادفة، بالتالي، أن تبقى العلاقات بين هاتين الحركتين الجماهيريتين، من جهة وبين سائر التنظيمات والقوى، أحزاباً وتجمعات وشخصيات. معلقة وهيولية وعائمة ومؤقتة دائماًن بمعنى إنها عرضة للتبدل كل يوم. في ضوء مجريات الأمور، وردود الفعل الآنية على تصرف أو بيان أو تصريح أو خطاب في مهرجان!
فطبيعة “أمل” كحركة جماهيرية، على حد رأي قيادتها، تستعصي على الانضباط وراء برنامج سياسي محدد، من شأنه أن يفرز الناس وفق طبقاتهم ومصالحهم وتلاوينهم الثقافية وتوجهاتهم الفكرية، بينما “الحركة” تستهدف توحيد قاعدتها الشعبية العريضة ، ولو على الحد الأدنى، لتحقيق مصالح “الطائفة” المحرومة، وتحصيل حقوقها المهدورة، وإيصالها إلى الموقع الذي تستحق في النظام ودست الحكم.
أما الحزب التقدمي الاشتراكي، وتحت قيادة وليد جنبلاط تحديداً ، فقد أنجز مهمة توحيد قاعدته الشعبية. مستكملاً ما كان كمال جنبلاط قد قطع على طريقه شوطاً طويلاً، فبات في مقدوره “أن يحكي في السياسة” مع القوى الأخرى، ومن موقع القائد والزعيم والرئيس دائماً، وبفارق في القوة والوزن، يجعله وحده صاحب حق النقض (الفيتو) ، يقبل ما يناسبه أو ما يريده ويرفض ما عداه، وما على الآخرين إلا الموافقة والتبرير و”مواصلة النضال لبناء علاقات جبهوية سليمة”، أو “لسحب الحزب – الطائفة – القائد أكثر فأكثر إلى ساحة العمل الوطني والتقدمي”.. هذا دون أن ننسى أن الدروز كطائفة، لا يشكون ضموراً في الموقع أو في الدور أو هدراً في الحقوق (والكرامة) كما في حالة “الشيعة”، في نظام الكوتا والحصص الموزعة على أساس طائفي ومذهبي ، وإن كانت الطائفتان تتلاقيان في التمني والعمل على “خرق السقف” وفتح باب التغيير بحيث يصبح من حق أي مواطن، بمن في ذلك الدرزي أو الشيعي، أن يكون رئيساً للدولة أو قائداً للجيش أو مدعياً عاماً للتمييز أو مديراً للمخابرات أو الأمن العام الخ…
“أمل” تريد ، باسم “الطائفة” خرق السقف، ليأخذ “الشيعة” ما حرموا منه مما يستحقون فعلاً بحكم كثرتهم العددية وإمكاناتهم المادية والثقافية، والحزب التقدمي الاشتراكي يريد ذلك، باسم “الدروز” من أجل الطموح، أي من أجل المستقبل، مع رفض البحث في ما بين يدي أبناء الطائفة من خيرات النظام ومواقع السلطة والمناصب.
ربما لهذا تقلص “السياسي” من العلاقة بين الحركتين الجماهيريتين، وإن فرضت التطورات السياسية والعسكرية، وواقع التحالف القائم بين كل منهما وبين دمشق، ثم حقائق الجغرافيا، توسيع الإطار أو الجانب العملي في هذه العلاقة التي تعدت، في حالات معينة، ما كانت تطلبه أو تتصوره قياداتهما فكيف بالخصوم؟!
ومع غياب العامل “السياسي” بما هو قوة جذب للتنظيمات الأخرى، وقاعدة لبرنامج سياسي يجمع كل أصحاب المصلحة في التغيير، انحسر الشعور بالمسؤولية الشاملة وعن الوطن كله، بشماله والجنوب، بقاعه والجبل، إضافة إلى العاصمة المهيضة الجناح بالتقسيم وخطوط التماس، لينحصر في إطار المصالح المباشرة “للطائفة” كما يراها ويعبر عنها “تنظيمها القائد”.
صارت علاقة بين “طائفتين” تعبر عنهما حركتان جماهيريتان، أكثر مما هي علاقة تحالف بين تنظيمين سياسيين تلاقيا على رؤية مشتركة للحاضر وتصور مشترك للمستقبل وأسلوب عمل لإنجاز مهمة التغيير، في الوطن كله، وبقوى الشعب كله، ومن أجله كله بطوائفه، المختلفة، الظالمة، والمظلومة، الحارمة والمحرومة، المميزة نفسها بموروثات عهود الحماية والاحتلال والقهر الاستعماري، أو المسقطة من الحساب كنتيجة لتلك الموروثات عينها…
في البداية كان ثمة ما يغطي هذه العلاقة ويمنحها مضموناً نضالياً، فعبر مواجهة مسيرة الحكم في اتجاه التفاوض (فالصلح بشكل ما) مع العدو الإسرائيلي، وضرب انتماء لبنان القومي والتزامه بموجبات الصراع العربي – الإسرائيلي، كما عبر مواجهة سياسة الهيمنة الكتائبية على البلاد والتصدي لمحاولة تسخير الدولة ومؤسساتها، والجيش أولاً، لهذا الغرض.. عبر ذلك كله، تلاقت حركة “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي مع العديد من القوى السياسية، الرافضة للاحتلال والمناهضة لسياسة الهيمنة، بما أضفى على اللقاء والحركة المنسقة (بهذا القدر أو ذاك) طابعاً وطنياً عاماً، تبهت معه الهوية المباشرة لأطرافه.
وبمقدار ما تأكد الطابع القومي لمعركة إسقاط الطائف 17 أيار، فقد فرض الصراع دخول اطراف عربية فاعلة في غمارها، على رأسها سوريا ومعها الجماهيرية العربية الليبية و”الانتفاضة” في فتح ومعها أكثرية الفصائل الفلسطينية المؤمنة بعد بجدوى القتال ضد إسرائيل وضرورته، وأسهم هذا كله في “تعريب” أجواء حركة “أمل” وتنقية المناخ من حولها، وهو في الأصل كياني بشهادة اسمها (أفواج المقاومة اللبنانية) وتوجهاتها الأصلية كما في “المنطلقات”.
أما بالنسبة للحزب التقدمي الاشتراكي، القديم الصلة بالحركة القومية وتياراتها ورموزها المختلفة، من جمال عبد الناصر الوحدة العربية، إلى المقاومة الفلسطينية فإلى حافظ الأسد ودوره في المنطقة عموماً وفي لبنان وعلى وجه الخصوص. فقد أفاد من مجمل تحالفاته لتركيز المعركة ضد الحكم، ومن خلفه ضد الكتائب و”المارونية السيايسة” بوصفها القابلة والحاضنة لهذا النظام السياسي الذي فصل على مقاسها ومن أجلها، كما تقول أدبياتها، حتى من قبل قيام “الجبهة اللبنانية” ومن قبل تشغيل “مركز الدراسات” في الكسليك أو في “بيت المستقبل”.
مع انتهاء المعركة ضد اتفاق 17 أيار، كان لا بد من إعادة صياغة البرنامج السياسي لهذا الحشد من القوى السياسية الذي تلاقى بغير تخطيط ربما، وبالاضطرار أحياناً (لاسيما في حالة “أمل” والحزب الشيوعي، مثلاً).
كذلك كان لا بد من وقفة للمراجعة والتأمل وإعداد النفس لمهمات المرحلة المقبلة، داخلياً وعربياً، مع إعطاء الأهمية المطلوبة للموضوع المفتوح والمتروك للريح: الوجود ومن ثم السلاح الفلسطيني في لبنان.
كان الكل متعجلاً ومشغولاً ومستغرقاً في مقتضيات المعركة فلم يتنبه أحد إلى أن صيغة مؤتمرجنيف، بمعنى دلالات تحديد الأعضاء فيه ومن ثم في مؤتمر لوزان، ستحكم علاقات القوى وحركة الصراع السياسي فيلبنان حتى أمد بعيدز
وحتى الذين تنبهوا فنبهوا لم يجدوا آذاناً صاغية عند رموز قوى التغيير، وهكذا حصر تمثيل شعب لبنان بالقيادات ذاتها التي لا تفتأ تمثله، برغم مظاهر المعارضة والاعتراض والرفض، منذ ما قبل الاستقلال على قاعدة صيغة 1943، التي اجتمع على إدانتها واعتبارها ساقطة في وقت واحد “المجددون” في ثلاث طوائف أساسية، على الأقل، وإن لأسباب مختلفة: بشير الجميل ومعه “القوات اللبنانية” باسم الموارنة، وليد جنبلاط ومعه الحزب التقدمي الاشتراكي باسم الدروز، ثم نبيه بري ومعه حركة “أمل” القادمة من خارج النادي السياسي، باسم “الشيعة”.
وكان طبيعياً، من ثم، أن ينشأ حلف موضوعي بين أطراف “الصيغة” ورموزها من كميل شمعون إلى صائب سلام ومن بيار الجميل إلى رشيد عبد الحميد كرامي، ومن عادل عسيران إلى سليمان فرنجية، ضد احتمالات التغيير التي يمثلها بالأصالة والحاجة نبيه بري، وبالرغبة وليد جنبلاط، وإن كان مقعده في الصف الآخر محفوظاًز
في ضوء هذا التطور يمكن أن نقرأ مجدداً أسباب “انفراط” جبهة الخلاص الوطني، التي كانت تضم الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي ووليد جنبلاط (ومعه، ولو بوجود رمزي، أحزاب العمل الوطني والتقدمي)، وتقيم علاقة تحالف مع نبيه بري وحركة “أمل”.
لقد انشطرت تلك الجبهة، يومذاك، مرتين : الأولى حين خرج منها سليمان فرنجية ملتحقاً بسائر الموارنة، ليقابله اقتراب الرئيس صائب سلام من سائر المسلمين، وقد كان بعيداً عنهم حتى يومها، والمرة الثانية حين فرض على كل طائفة أن تتلمس حدود الربح والخسارة في الصيغة الجديدة فرأى نبيه بري نفسه وحيداً في مطلب إلغاء الطائفية السياسية، وإن حرص وليد جنبلاط على إظهار استمراره في التعاطف معه، كما حرص ممثل سوريا (نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام) على إسباغ حمايته على الرجل والمطلب، فحال دون محاصرة الأول وعزله وعجز عن فرض الأخذ بالمطلب، الذي فهم الكل أنه يفتح باب الثورة ضد النظام على مصراعيه.
ربما عند ذلك أدرك من يعنيهم الأمر خطأ حصر التمثيل الشيعي بتلك القيادات “التاريخية”، التقليدية والمحافظة واليمينية والمرتكزة إلى الطائفية بالضرورة، وتحسروا بعد فوات الأوان على غياب الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن واللاتين وسائر الطوائف المسيحية التي أجبرت ، مرة أخرى، على اعتبار المارونية السياسية “ممثلها الشرعي الوحيد”، وكذلك على غياب رموز التغيير، سواء داخل الطوائف الإسلامية الأخرى أو خارجها في أحزاب العمل الوطني والقومي والتقدمي.
وهكذا فلقد عاد الذين ذهبوا لإعادة بناء لبنان، في جنيف ثم في لوزان، طائفيين كما لم يكونوا من قبل، أو أكثر مما كانوا في أي يوم، ولطائفيتهم مشروعية كانت قد اهتزت حتى أوشكت على الانهيار، عشية توجيه الدعوة إلى المؤتمر الأول للحوار الوطني.
بهذا المعنى فإن أمين الجميل لم يربح فقط إعادة انتخابه، مرة أخرى رئيساً للجمهورية وللبنانيين، واستعادة اعتباره وشرعيته، بل عاد وقد أعاد الاعتبار للنظام الطائفي الذي يمثله، وأساساً للمارونية السياسية، وبالتبعية للسنة السياسية، والشيعة السياسية والدرزية السياسية.
وكان على اللبنانيين أن يبدأوا، من الصفر تقريباً، معركتهم ضد النظام الطائفي الذي سارع إلى تدعيم نفسه بعد لوزان.
ففي المنطق الطائفي، أو بمنطق النظام الطائفي، لا يهم أن تخسر الأحزاب الممثلة للطوائف، فأسهل الأمور والحالة هذه أن يضحى بالأحزاب لكي تبقى الطوائف ومصالحها الأساسية بعيدة عن الخطر… ودفع حزب الكتائب فعلاً، بعض الثمن، كما دفعه بعض رموز النظام من الطوائف الأخرى، من أجل أن يبقى النظام ويستمر.
ليس من الموضوعية في شيء أن يغفل تأثير العامل العربي على التطورات التي شهدها لبنان منذ انفجار المعركة الوطنية – القومية ضد اتفاق 17 ايار وحتى اليوم، وبالتالي على قوى الصراع الأساسية فيه وآفاق توجهاتها ومضامين حركتها.
فمؤكد أن بعض المحنة التي يعاني منها اللبنانيون (والعرب عموماً) يعود بأسبابه إلى التراجع المريع الذي منيت به حركة القومية العربية التي شارفت ذات يوم الأفق المتوهج للثورة، ثم انكفأت فتحصنت في بعض المطامح والشعارات والذكريات، وقلة من المناهج التي تحكم مسلك عدد محدود من الأنظمة السياسيةالقائمة وكذلك بعض الأحزاب والتنظيمات التي تعاند وتكابر فترفض اعتبار “القومية” من تراث الماضي…
وإذا كانت هذه المحنة قاسية بانعكاساتها على العرب جميعاً، وفي مختلف أقطارهم، فإنها في لبنان قاتلة، لأن رد الفعل الفوري على التراجع القومي يعبر عن نفسه فوراً في تزايد حدة الشعور الطائفي، ومن ثم الانقسام الطائفي.
والأخطر إن التراجع القومي يغري، مباشرة، بعض الطوائف والفئات برفع الحظر عن التعامل مع العدو الصهيوني، مبرراً هذا الانحراف بهزيمة العرب وعجزهم عن مواجهة العدو: “إذا كان العرب مجتمعين قد فشلوا واندحروا فماذا يمكن لبدل ضعيف وصغير كلبنان أن يفعل في معركة ضد أقوى قوة في الشرق الأوسط، بل ضد القوة الخامسة في العالم، كما يصنف خبراء الاستراتيجيا إسرائيل”؟!
ما يعنينا من هذا كله أن بعض محنة العمل الوطني في لبنان، بأحزابه وتنظيماته جميعاً، يعود إلى تراجع الحركة القومية.
ومؤكد أنه لو كانت أحزاب العمل الوطني أكثر عافية، وأقوى نفوذاً، وأوضح رؤية لحركة الصراع السياسي ومقتضياته، وأعظم استعداداً وتنظيماً، لما كان المجال انفتح فسيحاً أمام حركات تمثل الطوائف والمذاهب، بل لكانت حركة “أمل” ذاتها قد غدت – وبتأثير المناخ العام – أقرب إلى الحزب السياسي الممثل لفئة المحرومين، عموماً، أكثر منها حركة تمثل طموح طائفة بعينها (الشيعة) على إثبات وجودها ونيل حصتها من هذا النظام الطائفي.
وفي ما يخص الحزب التقدمي الاشتراكي فتاريخه ذاته يقدم الدليل على صحة هذا الاستنتاج : فهو قام بالأصل وفي أوائل الخمسينات، كحزب ذي برنامج إصلاحي، غير طائفي قطعاً، ولم تلحق به شبهة تمثيل طائفة بالذات (الدروز) إلا مع انفجار الحرب الأهلية بمناخاتها الطائفية المسمومة ، في الداخل، وبالآثار المدمرة للصراع بين أطراف كان يجمعها ويوحد بين تطلعاتها – ذات يوم – إطار العمل القومي في مواجهة عدو محدد هو إسرائيل معززة ومدعمة
ولقد افترض البعض، لفترة إن حركة المقاومة الفلسطينية التي استقبلها لبنان وفتح لها القلب والذراعين والأبواب جميعاً بوصفها الامتداد الطبيعي لقيادة العمل القومي، ستوفر له مناخاً سليماً يعصم العمل السياسي فيه من مزالق الطائفية، ومخاطرها القاتلة، ولكنه فجع بها تنزلق هي إلى المستنقع الطائفي وتغرق معه فيه، ملحقة بقضيتها وقضيته أشد الأذى.
ذلك على أي حال موضوع آخر سنعود إليه بالتفصيل.
ما يعنينا أن نضيفه. هنا، ولاختتام الكلام في مسؤولية “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي، بعض الملاحظات السريعة أبرزها:
*إن محاسبة هذين التنظيمين واجبهة، ولكن بمعيار سياسي عنوانه القصور أو التقصير في صياغة برنامج وطني شامل يكون قاعدة لقاء وتنسيق وصولاً إلى التحالف الحقيقي في المعركة لتحرير الأرض والإنسان في لبنان.
وحتى المحاسبة على الدور الأمني لهذين التنظيمين، في بيروت الغربية خاصة، ثم في الأنحاء والجهات التي يتحملان – طوعاً أو بقوة الأمر الواقع – مسؤوليتها يجب أن يكون منطلقها سياسياً: بمعنى كم انعكس التسيب والاضطراب والاشتباك سلباً على مسيرة النضال من أجل الأهداف الوطنية.
*إن المحاسبة بمعيار أمني بحت ظالمة للتنظيمين ، أما المحاسبة الأخرى فقد تظهرهما ظالمين، ظالمين لذاتهما كما للناس.
والمحاسبة عن بيروت الغربية وحدها، أو عن الشوف وحده، أو عن الجنوب وحده، قاصرة، وتؤكد الخطأ ذاته الذي وقعا فيه.
أما الحساب الحقيقي والمطلوب فهو عن ناتج تجربتهما في ما يخص مستقبل لبنان ذاته، ومستقبل العمل السياسي فيه.
من هنا ضرورة أن تفحص المجريات وتناقش بمنظور وطني شامل، بمعنى ان ما يتم في الشوف أو في الجونب.
إضافة إلى بيروت سيعكس آثاره – بالسلب والإيجاب – على المستقبل، مستقبل كل الناس، وفي مختلف أنحاء لبنان، بما فيها تلك الأنحاء التي لا تتواجد فيها “أمل” أو الحزب التقدمي الاشتراكي.
… وإلا فبأي حق كنا نلوم حزب الكتائب ونهاجمه ونوجه إليه أقسى الاتهامات ونحن نراه يجتزئ بعض الوطن، فيعزله عن سائر أنحائه، ويتحكم بأهاليه ويفرض عليهم منطقه ورؤيته ومنهجه الطائفي؟!
*وخطأ التنظيمين إنهما توقفا ، بالحركة والفعل وحتى بالدعوة، عند خطوط التماس، فلم يخترقاه وليس بالضرورة بالسلاح بل بالبرنامج السياسي المستقطب للجمهور الآخر، والموحد لكل اللبنانيين.
*والخطأ الآخر الفادح إنهما في مجمل حركتهما قد توقفا عند حدود المذهب أو الطائفة، المصالح أو أماكن الانتشار، وحدود المذاهب والطوائف ليست هي حدود الوطن ومصالحه ولا يمكن أن تكون.
فعندما تصبح الطائفة حزباً يخسر الوطن والوطنيون.
أما حين يخرج الناس من طوائفهم إلى الأحزاب، وبالذات تلك المفتوحة الباب والصدر لآفاق النضال الوطني والقومي والتقدمي ولمهماته الجليلة، فذلك مكسب للوطن وقضيته… فالخروج من اسار الطائفية تحرر وانطلاق يتيح استنشاق الهواء النقي واكتشاف لون الورد، أما الدخول إليها فانغلاق يؤدي إلى اختناق المواطن والوطن.
وبالقطع فإن أي حزب سياسي يظل أعجز من أن يعبر عن طائفة… فالطائفة بعض الناس، ولكنهم فيها مثلهم خارجها: مصالح متناقضة وآراء متعددة ومتنافرة، وأهواء وأغراض.
وفي حين تخاطب الطائفية عواطف الناس ومكامن العصبية فيهم بل وحتى الغرائز، لاسيما في الحروب الأهلية، كغريزة الدفاع عن النفس والنوع، وغريزة البقاع، فإن الأحزاب تخاطب في الناس أرقى ما فيهم: عقلهم وفكرهم والمصالح وطموحهم المشروع إلى مستقبل أفضل.
*وتبقى ملاحظة أخيرة:
لا نظن أن ثمة من يكابر في أن “أمل” والحزب التقدمي الاشتراكي يتحملان مسؤولية مباشرة عن الكثير من وجوه الخطأ في الممارسة، إن بالنسبة لبيروت الغربية أو للجهات الأخرى.
ومؤكد أن قيادات هاتين الحركتين الجماهيريتين تدركان ذلك وتقران به، وتطلبان العون للتصحيح والإنقاذ.
ومؤكد أن الحل لا يكون بأن يتخلى هذان التنظيمان عن مسؤوليتهما وأن يخرج نبيه بري وحركة “أمل” من بيروت لإقامة معسكر كشفي في بعض الأراضي البكر، أو “يهج” وليد جنبلاط تاركاً الحزب التقدمي الاشتراكي ومن وما يمثل للقادر على أخذه.
وفي أي حساب فإن ثمة حلاً وحيداً ممكناً وقابلاً للحياة هو قيام جبهة وطنية حقيقية تضم أطراف العمل الوطني جميعاً. على قاعدة برنامج وطني شامل يحدد المهام والأولويات وأهداف النضال وسبل تحقيقها، وعلى قاعدة تحالف ثابت ومكين وواضح الأبعاد مع سوريا.
وبالطبع فإن مهمة جليلة كهذه تستهدف إنقاذ الوطن وإعادة صياغة نظامه السياسي وتوكيد هويته القومية وطريقه على غده الأفضل، تستحق جهداً جباراً ، وتتطلب أن يشارك الكل في تحمل التبعات لتذليل العقبات المانعة لقيامها، وهي كثيرة.
ولا يجوز، والحالة هذه، أن يكون ثمة قاعدون، ومستنكفون ، ومنتظرون، يقتعدون كراسي بعض المقاهي أو الأندية في بيروت، أو فندق شيراتون في دمشقن ثم يؤشرون بعلامات “صح” و”غلط” على عمل الآخرين،
فالحروب الأهلية لا تنبت الورود، بل تقتلها،
وحده المحب للوطن والحياة وأجياله الآتية هو الذي يعتبر أن بين واجبات الانتصار على مفجري الحرب والمتفعين بها، أن يرعى الورود ويحميها لتكون سمة من سمات غده المرتجى.
هل قلنا كل شيء؟!
ليس هذا ما نقصده، فمهمتنا إثارة الحوار وتوسيع دائرته والعمل على اغنائه، بوصفه طريقاً للإنقاذن ولغيرنا أن يقول ما عنده، بل إن واجبه أن يرفع الصوت، بالاعتراض أو بالتأييد لا فرق.
ويبقى أن ننتقل إلى الموضوع الفلسطيني، وباعتباره عنصراً “محلياً” ايضاً، ومؤثراً بالسلب والإيجاب على مسيرة العمل الوطني والقومي في لبنان، وبالتالي على مستقبل الصراع السياسي في هذه البلادن ثم نختم هذه المناقشة التي طالت ربما بأكثر مما يجب.
فإلى الغد.