الصمت هو السيد من حول قصر المؤتمرات، هنا في الطائف التي رحل مصطافوها عشية دخول الخريف فانخفض عدد سكانها إلى النصف، ككل سنة، بحيث باتوا لا يزيدون على المائة ألف نسمة إلا قليلاً.
وطبيعة المدينة تغري بالصمت وتفرضه، فالوهاد والهضاب التي تتدرج حتى تذوب في الجبال التي تقوم سوراً من الأسنام المدببة تحد الحركة في حين تمتص الطرقات العريضة المخضرة القلب بالشجر جلبة السيارات المعدودة القاصدة الهدأ ومكة المكرمة ومن بعدهما جدة أو لاآتية منها.
كذلك فإن الدولة المضيفة قد أقامت حرساً على الصمت لشدة حرصها على راحة السادة البرلمانيين ومساعدتهم على استعادة هدوء أعصابهم وصفاء تفكيرهم تمهيداً لأن تعمل عقولهم (وضمائرهم) بشكل سوي، بعيداً عن تأثيرات الهواجس الممضة وكوابيس الرعب التي استولدتها “حرب التحرير” أو تلك المولودة قبلها.
أما داخل القصر فإن الهمس هو السيد، برغم صخب السادة البرلمانيين اللبنانيين وجدلهم وهم يتعاركون مع الرغبة في التعديل تسكيناً للخوف “الجسدي” وأيضاً مع الرغبة في تجنب التعديل منعاً للخوف من استحالة الحل، إذا ضاعت “الفرصة الأخيرة” المتاحة الآن.
والهمس هو لغة اللجنة العربية الثلاثية عبر وزرائها و”فدائيها” الأخضر الإبراهيمي، وبعض المعاونين الأكفاء من “الليبانيست” وبينهم عبد الكريم غريب الذي عرفه لبنان سفيراً في الحرب ويتمنى هو أن يعرف لبنان في ظل السلام… العربي.
ولأن صخب النواب وجدلهم وعراكهم “القانوني” من طبيعة حرفتهم ومن لوازم إثبات الأهلية و”مسوغات التعيين”، ثم إنه يجد – برغم حصار الصمت المفروض بشيء من الشدة – طريقه إلى النشر،
ولأن الناس يعرفون عن السادة البرلمانيين ما يكفي لاستبعاد أية مفاجأة من شأنها أن تقلب مضمون النص المعروض وسياقه.
لهذا وذاك، ولأسباب أخرى ، سيتركز حوارنا مع ذلك “الهمس” الذي تمتلئ به جنبات الكواليس والأجنحة الفخمة في قصر اللقاءات المذهبة، والذي يفترض أن يصل المؤتمرون به وعبره وبفضله إلى النتائج المرجوة والمنتظرة في البلد الجريح…
همس الهامس العربي: – تعالوا إلي بهواجسكم وأنا أريحكم.
ونطق “الخائف” اللبناني وهو يتلفت حوله حذراً: – ألا تعرفون أنتم مصادر القلق وأسبابه؟! “إنهم” يطلبون منا فوق ما نطيق، ويريدون كل شيء دفعة واحدة وفوراً، ولا يراعون ظروفنا الدقيقة ووضعنا الخاص…
همس الهامس: “لنبدأ بها واحدة واحدة…
قال “الخائف”: – فأما الاصلاح فلا أحد منا يعترض عليه، كمبدأ، ولكنهم يريدون “تشليحنا” كل شيء. إنهم يريدون تحويل رئيس الجمهورية إلى “تشريفاتي”، يستقبل ويودع ويمنح الأوسمة والنياشين، فإذا حضر جلسات مجلس الوزراء فلن يكون أكثر من شاهد زور.
همس الهامس: – هذا أمر جرى حسمه في مناقشاتنا الطويلة معكم ومع الأطراف الأخرى في تونس والكويت ثم في بيروت، ومن قبلنا كان قد ناقشه معكم ومع غيركم الموفدون الأجانب، الأميركيون والفرنسيون والفاتيكانيون، ووضعت أوراق واعتمدت وكادت تقر لولا الظرف الاستثنائي الذي فرض على لبنان أن يعيشه خلال السنة المنصرمة. لم نأت بجديد، في وثيقتنا، بل أخذنا ما كنتم قد توافقتم عليه، بحرفيته تقريباً، وأثبتناه، ثم عرضناه عليكم من جديد لكي تعيدوا نقاشه، فإن وجدتم حاجة إلى تعديله فعدلوه، ولكن ليس بمنطق إنهم غيركم، وإننا نحازبهم، فأنتم جميعاً في عيننا سواء.
-لكن كرامة الطائفة تفترض أن يبقى الرئيس رئيساً وبصلاحيات…
*لسنا ضد صلاحيات الرئيس، نحن نسعى لمساعدتكم على التوازن.
-الرئيس هو رمز الطائفة، ورئاسة الجمهورية هي بعض ضماناتها…
*لكننا سمعناكم تقولون، مراراً، إن هذه الضمانات لم تضمن شيئاً، بل لعلها جرت عليكم لاوبال.
-إنهم يقيسون على نموذج أمين الجميل وينطلقون منه. لقد كنا ضحاياه مثلما كانوا هم، فلماذا نؤخذ بجريرته. إننا بهذا نعاقب مرتين.
*.. في حين لم يعاقب أحد المخطئ الذي تحصن بالطائفة وكرامتها.
-لكن أمين الجميل ليس القاعدة ولا يجوز أن يكون. من الظلم أن تختزل الطائفة في رجل أساء إليها أكثر مما أساء إليها أعتى خصومها.
*نحن معنيون بالمستقبل، إننا لا نتهم أحداً وليس لنا الحق في محاسبة أحد. إنما حاولنا المساعدة في صياغة ما توافقتم عليه مما يمنع تكرار التجارب القاسية. إننا معنيون بحماية لبنان، أرضاً وشعباً ودولة، لكن عليكم أن تكونوا مبادرين في هذا المجال حتى لا يبدو مطلب الاصلاح وكأنه هدف إسلامي. إنه في نظر الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وفي نظر الدول الصديقة والحريصة على لبنان، وعلى الوجود المسيحي إذا رغب بعضكم في استخدام هذا التعبير، شرط لاستمرار دولتكم التي أنهكها وكاد يدمرها الخلل الفاضح في نظامها السياسي وفي أسلوب ممارسة السلطة.
-إذا سلمنا بضرورة الاصلاح وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية فماذا نأخذ بالمقابل؟! هل تعطوننا في موضوع الانسحاب السوري، لاسيما لجهة برمجته بقصد التعجيل فيه.
*لسنا بصدد مقايضة، لقد درسنا الوضع من كل جوانبه، استمعنا إلى الجميع، في الداخل والخارج، راعينا جانب كل طرف من الأطراف المعنية، وأخذنا بالاعتبار المعطيات العربية والإقليمية والدولية، فكان أن توصلنا إلى هذه الوثيقة التي لا بد من النظر إليها والتعامل معها كوحدة. لم نكتب حرفاً واحداً اعتباطاً، ولم نعالج هذا أو ذاك من الشؤون منفصلاً عن سائر مكونات الأزمة اللبنانية.
-يعني إننا لا نستطيع تحريك حرف مما كتب…
*أبداً، ليس هذا قصدنا، إنما نريدكم أن تتعاملوا مع نص الوثيقة كوحدة، إن تعديل بنه منه سيستتبع بالضرورة تعديل بنود أخرى وهكذا. راعوا وأنتم تناقشون أمر التعديل الجزئي تأثيره على النص بكليته. إننا نسعى إلى توافق في ما بينكم. لسنا طرفاً ولسنا مع طرف ضد طرف. لقد توصلنا بعد تعب وبعد مجهود شاق وبعد مفاوضات قاسية واتصالات لا حصر لها إلى تصور شامل لحل متكامل للأزمة اللبنانية، نعتقد بمنتهى التواضع إنه الأول من نوعه.
-يا طالما عرضت علينا مشاريع حلول،
*لكنه أول تصور متكامل للحل بجوانبه كافة، مع تقديرنا لكل من سعى أو اجتهد لوضع تصور للحل.
رفع الهامس صوته درجة وأضاف: – كانت بعض مشاريع الحلول يركز على الاصلاح السياسي ويغفل موضوع العلاقة مع سوريا، وكان بعضها الآخر يركز على الوجود السوري ويغفل موضوع الاصلاح. وفي رأينا إن أياً منها لم يكن مشروعاً قابلاً للحياة، والدليل إن الأحداث قد أسقطتها جميعاً. هذه أول صياغة لرؤية شاملة للأزمة بكليتها.
قال الخائف: – ربما، لكنكم لم تراعوا وضعي الخاص، لم توفروا من أسباب الطمأنينة ما يذهب بخوفي المتعدد المصادر.
شدد الهامس على كلماته: – بل إننا قصدنا بالنص المتكامل والذي يشكل وحدة لا تتجزأ، حتى إذا عدلت بعض بنوده، أن نهدئ روع جميع الخائفين. ولعلكم تقرون معنا في أن اللبنانيين جميعاً وبطوائفهم كافة خائفون، إن كلا منكم خائف ومخيف. ومرة أخرى نقول: عدلوا كما تريدون، ولكن راعوا دائماً وحدة النص، وحدة التصور للحل العتيد. وعليكم أن تتوافقوا على كل تعديل. ما تتوافقون عليه لا يمكن أن يؤذي وحدة التصور، بل هو سيعززها.
-والخوف؟! لا تنسوا إننا سنعود، في النهاية، إلى بيوتنا وإلى مواجهة الأوضاع التي تعرفون، فمن يضمن لنا حياتنا،
يجيب الهامس بابتسامة.. فيكمل الخائف تبرير خوفه:
لقد وقعت تعديات على بعضنا، نسفت بيوت وأحرقت سيارات، وأصدرت بيانات تتهم النواب بالخيانة… ثم إننا تلقينا تهديدات مباشرة عشية قدومنا إلى هنا تلبية لدعوتكم، وليس سراً أن لقاءنا الأخير مع “الجنرال” والذي امتد ثلاث ساعات اشتمل على محاولة “لإقناعنا” بعدم السفر استغرق الجدل فيها ساعتين ونصف الساعة، ثم على توصيات و”نصائح” بعدم التفريط وبالتزام “المنطق الوطني” في مواجهة الاحتلال، والتحذير من أن التساهل قد يكون في مستوى الخيانة!
تتسع ابتسامة الهامس ويكتفي بالبسملة والحوقلة وينتظرأن يسمع بقية الكلام… يستطرد “الخائف” فيقول:
-من يحمينا بعد عودتنا، من غضب الجنرال؟! هل تستطيعون أنتم، أيها الأخوة في اللجنة العربية، أن توفروا لنا الحماية؟!
يهمس الهامس : – نحن تحت تصرفكم، كما تعرفون،
-لكنكم لن تكونوا معنا في بيروت،
*بل سنكون معكم، كما كنا في الفترة الماضية، وللقرار قوة تحميه، كما لا بد تعرفون. إننا نمثل الأمة العربية بأعلى مستوياتها القيادية، ونمثل إرادة دولية أعلنت مراراً وتكراراً وقوفها مع الحل العربي، باعتباره الحل الوحيد للمسألة اللبنانية، بل هو أكثر: إنه الفرصة الأخيرة كما يقول الكل.
-وهل تملكون من الضمانات ما يكفي للاطمئنان إلى أن الانسحاب السوري سيتم فعلاً، وفي المواعيد المقررة؟!
*لم يكتب أي حرف في الوثيقة عبثاً. لقد كتبنا نصاً يتضمن حصيلة ما توصلنا إليه، كممثلين للقمة العربية مكلفين ومفوضين بتنفيذ قرارها. والأخوان في سوريا كانوا مبادرين إلى اقتراح اللجنة العربية الثلاثية وهم أول من جهر بتأييده لقرار قمة الدار البيضاء، ثم إننا لم نعلن قرارنا إلا بعد اتفاق شامل وجدي مع القيادة السورية، وكلمتها – كرئيس وكدولة – هي بين ضمانات نجاحنا.
تلون صوت الخائف وهو يقول: – حتى مع التسليم بهذا كله فلا بد أن نعود وبيدنا شيء. ساعدونا ووفروا لنا انتصاراً ما.
زفر الهامس: – انتصار على من؟! علينا أم على زملائكم؟!
-ولكننا أعطينا في الاصلاح. فاعطونا في موضوع الانسحاب، اعطونا، على الأقل، التزامن…
*لسنا من يعطي أو يحجب، لقد قلنا كلمتنا، توافقوا مع زملائكم على أي نص فندعمه بكل ما نملك من قوة. ولكن تذكروا دائماً أن مقترحنا هو حصيلة توافق عربي ودولي عام. إنه ليس اجتهاداً شخصياً. إنها محاولة مخلصة وجادة لوقف النزف وإنهاء هذه المأساة القومية. إننا قد تخلينا عن كل مهماتنا ومسؤولياتنا في بلادنا وتفرغنا لنكون في خدمتكم، نساعدكم في ما تطلبون المساعدة فيه، ونذلل العقبات التي قد تعترض طريقكم، ولكن رجاء لا تطلبون منا ما يتجاوز قدراتنا أو نطاق اختصاصنا. وتذكروا إن الحل يحتاج إلى شجاعة وإقدام وإصرار على المواجهة. والشجاعة مطلوبة منا ومنكم جميعاً، على اختلاف انتماءاتكم. وصدقونا إن قرار السلام يتطلب شجاعة أكثر من قرار الحرب، وجميعنا الآن في الامتحان.
هذا “بعض” الحوار بين الهامس العربي والخائف اللبناني. أما بعضه الأخر فبمعثر الآن بين ردهات قصر الصمت عند المدخل الشرقي لمصيف الطائف الذي تلفه الآن نسائم الخريف الصحراوية المنعشة.
على إن الأكيد إن تطمينات الخائف لا تشتمل على دبابات وصواريخ ومدافع ثقيلة، وإن كانت لا تقتصر على برقية التأييد التي تلقتها رئاسة المؤتمرين من جيبوتي الشقيقة وحرصت على تعميمها ليلاً “مع مخصوص”.
وفي الليالي الصيفية للطائف يحلو السمر ويمتد الهمس جسراً بين الذين يطوفون بين الخوفين : الخوف على طوائفهم والخوف منها، الخوف على وطنهم والخوف على الامتيازات، الخوف على المستقبل والخوف على الذات.
والهمس ينفع في علاج الخوفين أكثر بالتأكيد من دوي المدافع الذي هدر شهوراً طويلة في لبنان الجريح، حتى كاد يذهب به وبأهله الطيبين.
فكيف إذا كان الهمس ملكياً وفي مصيف ملكي تظلله، إلى جانب هلال ربيع الأول، الأقمار الصناعية اليت تربطه بمراكز القرار في أربع رياح الأرض؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان