لبنان مشغول بحكومته الجديدة التي اختير لرئاستها الرجل الذي ارتبط اسمه بانفجار الحرب الأهلية (العام 1975)، ربما للإيحاء بأن اللبنانيين قد تجاوزوا أحقادهم وعداواتهم الصغيرة (الشخصية والجهوية والطائفية والمذهبية) وجمعتهم المحنة وحقيقة أنهم جميعاً مهزومون، بقدر ما جمعهم خطر الجوع والانهيار الاقتصادي الشامل.
أما في دنيا العرب عموماً فالشغل الشاغل هو مسيرة التسوية، خصوصاً وقد بدأت اللجان الفرعية للمؤتمر متعدد الأطراف أعمالهأ، وإن بتثاقل، في خمس عواصم تنتثر على امتداد القارات.
وعبر هذه اللجان سيتقرر من سيشارك العرب بماذا، وبالتحديد: ماذا ستترك إسرائيل للعرب من أراضيهم وثرواتها ومصادر المياه ومن مجالات النشاط والإنتاج، إضافة إلى القرار السياسي.
بعض العرب جيء بهم إلى المؤتمر كي يعلنوا موافقتهم على أن تشاركهم إسرائيل في ثروتهم الهائلة : النفط،
والبعض الآخر لكي يوافقوا على أن تقتطع إسرائيل بعض مياههم، بمعزل عما إذا كانوا بحاجة إليها أم لا، فالمهم ألا يعطش المستقدمون الجدد إلى أرض الميعاد من ديار الشتات، أما سكان البلاد الأصليون فمعتادون على العطش ثم إن مياههم تذهب هدراً إلى البحر البلاضفاف!
والكل مدعوون لأن يوافقوا على أحقية الدولة الأقوى في “منطقتهم” في أن تقرر معهم أو عنهم، فلا تكون بعد اليوم “العدو” ولا تسور بالكراهية والمقاطعة الاقتصادية وخنادق الموت.
والقرار صعب جداً، لذا فلا ضرورة للعجلة، ومن الممكن التباطؤ في الإنجاز فلا يأتي إلا وقد ألف الناس أمره واستعدوا له فلا يفاجئهم ولا يستعديهم أو يستفزهم أو يحرضهم فيتحركون ضده وهو لما يولد.
وفي انتظار ذلك فلا بد أن ينشغل كل قطر بهمومه ومسائله الداخلية التي لا حل فعلياً لها، والتي لا يملك أحد أن يتخطى واشنطن وهو يتصدى لمحاولة حلها.
على هذا فثمة شهور من الانتظار والقلق والمناوشات والمناورات ومحاولات الابتزاز بالضغط وبالضرب أحياناً تحت الحزام.
الكل يتفق أن الحركة لن تتوقف ولكنها ستهدأ إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، ثم تنشط عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية.
أي أن أشهر الصيف ستكون “حامية” أقله سياسياً، وعلى مستوى المنطقة، كلها وليس على مستوى لبنان فحسب،
لذا فلا بد من شيء من التنفيس للاحتقان الداخلي في كل مكان، ولاسيما في هذا البلد الصغير الذي لما تشف جراحه بعد، والذي دهمته الحرب الاقتصادية قبل أن يبل من فواجع حربه الأهلية المتعددة الأغراض والجبهات والشعارات والقوى.
والسؤال يتجاوز شخص السياسي المخضرم الذي تم اختياره رئيساً للحكومة، رشيد الصلح، وهو صاحب خبرة في اللعبة السياسية التقليدية،
السؤال يتركز حول المهمات المطروحة على أية حكومة ستجيء بعد انتفاضة 6 أيارن بكل دلالاتها الاجتماعية والسياسية، وبكل الجراح التي تركتها على ما تبقى من الجسم السياسي في لبنان، وبشكل خاص على جسد الحكم بمختلف أطرافه والقوى المشاركة فيه.
فعلى هامش الانتفاضة الشعبية كانت تجري فصول حرب داخلية بين الأخوة – الأعداء في الحكم والحكومة… وقد أقدم بعضهم على مهاجمة أو إحراق بيوت البعض الآخر، كما تبادل الكل التشهير بحيث لم يكد يسلم أحد من “آثار العدوان” سواء العفوي أم المدبر.
هل يستطيع رشيد الصلح، بخبرته وفهمه لطبائع الحكام وأوزان القوى، أن يرمم العلاقات بين الرؤساء المختلفين، وبين المؤسسات التي تتناتش السلطات والصلاحيات… هل يستطيع أن يكون أرض المصالحة أو صانع الهدنة بين المختصمين والمقتتلين على أبواب حكم مهدد برمته إن هو لم يتدارك وضعه باجتراح سلسلة من المعجزات تتجاوز قدراته الطبيعية؟!
لقد كشفت الانتفاضة، لاسيما بما هو غير مدبر من تجلياتها، عن وجود جو عارم من القلق والاضطراب يمس الثوابت والأساسيات في ركائز هذا الحكم وعلاقاته الحيوية، كما كشفت عن طاقة هائلة من العدائية التي يمكن تفجيرها في أي وقت وضد أي كان يمكن أن ينسب إليه التسبب في تدهور الأحوال.
وسيكون على حكومة رشيد الصلح أن تعيد تثبيت ركائز الحكم، وقواعد اللعبة، وأن تمتص “العدائية” واحتمالات التفجير، عن طريق إثبات أهليتها بطرح تصور لحل جذري ولو بعد حين،
كذلك سيكون على هذه الحكومة أن تنجز ملفات فتحتها الحكومة الكرامية ثم عاجلتها الأحداث فلم تستطع أن تحسم فيها وبينها: ملف التقسيمات الإدارية وقانون الانتخاب وموعد الانتخابات النيابية التي كثر الحديث عنها وعن ترتيباتها بقدر ما تزايدت الشكوك حول إمكان إجرائها وبالتوقيت المعلن (أواسط الصيف)، إضافة إلى ملف المهجرين، ثم التعيينات والتشكيلات الإدارية القابلة دائماً للتحول إلى عبوة ناسفة للحكومات!
على أن الانتقال إلى “حكومة طبيعية”، بمعنى أن تكون منسجمة مع رئيس الجمهورية ومعبرة عن التوازنات داخل المجلس النيابي، يظل مطلوباً،
فهل ترى الميليشيات قد دجنت بما يكفي لتصبح كتلاً نيابية وقوى سياسية معبرة عن شرائح اجتماعية أم تراها ما تزال تعيش أسيرة ماضيها بما يعطل العودة إلى الحكم الطبيعي؟!
وهل تكفي الأسماء الجديدة القليلة المطروحة لدخول الحكومة القديمة بأكثرية وجوهها، لكي تعفيها من عبء المحاسبة عن الماضي، وتمكنها من أن تقدم نفسها باعتبارها المسؤولة عن الغد فحسب؟!
وأسئلة كثيرة أخرى تطرح نفسها، لكن أجوبتها مرجأة في انتظار الصورة الكاملة لحكومة رشيد الصلح الثانية والتي يراها البعض حكومة الياس الهراوي الأولى.
