أما وإن اللجنة العربية الثلاثية تعد تقريرها عن مرحلة ما بعد الطائف، فإن اللبنانيين يتمنون أن يسمعوا منها ما يطمئنهم على مستقبل الجنوب.
لقد ظل موضوع الجنوب، بالاحتلال الإسرائيلي لبعض أرضه كما بالمقاومة الوطنية الباسلة واليتيمة، هامشياً باستمرار في “أدبيات” اللجنة العربية كما في اهتماماتها اليومية.
كان منطقها بسيطاً: نحن لا نملك من أدوات التأثير على الموقف الإسرائيلي غير إلحاحنا على أصدقائنا الأميركيين بأن يمارسوا بعض الضغط على أصدقائهم الإسرائيليين، لتمرير “التسوية” السياسية التي من شأنها، متى اعتمدت، أن تؤمن قيام الحكومة المركزية القوية في بيروت وهذه تتولى تأمين سلامة الحدود الشمالية للكيان الصهيوني ومنع تسلل الفدائيين إليه عبر بوابة الجنوب.
بمعنى آخر فإن اللجنة كانت، وما زالت معنية بصيغة الحكم ومشغولة بإنجازها، عما عداها من الهموم اللبنانية التي لا تقع تحت حصر.
… أو إن الطوائف وحصصها في كعكة الحكم قد ألهتها عن الاهتمام بالأرض وأهلها.
لكن المؤسف أن الطوائف قد ضربت صيغة الطائف العتيدة، وهي تكاد تسقطها إن لم تجترح اللجنة معجزة تنقذ بها نفسها وإنجازها.
كذلك فإن الطوائف قد صدعت صمود الجنوب وفتكت بروح المقاومة الباسلة وها هي تأخذه إلى المجهول، وسط صمت عربي مريب وعجز رسمي فاضح، هذا إذا ما أغفلنا التواطؤ العلني القائم بين أصناف الطائفيين على وحدة الدولة والشعب والأرض بجنوبها وعاصمتها وسائر الجهات.
وإذا كان التحالف بين جنرال الحرب في بعبدا وجنرال الارتزاق في “الشريط الحدودي” منطقياً، فإن تبادل المنافع والمصالح المشتركة لا بد أن تشدهما برابطة قوية إلى كل من يعمل على تفجير الجنوب بالاقتتال وإغراق أبنائه في بركة م ندمائهم بدل أن يكون همهم طرد المحتل لاستعادة الوطن ودولته التي أسقطتهم من ذاكرتها حتى من قبل أن تسقطها الحرب الأهلية.
ولا تعني مطالبة اللجنة العربية الثلاثية بأن تستذكر الجنوب دفعها إلى إعلان الحرب، مثلاً، على العدو الإسرائيلي، أو تحريضها لاتخاذ موقف حازم من التوغل الإيراني داخل الجسد اللبناني المعتل،
تلك أمور تتجاوز طاقة اللجنة وصلاحياتها، ولا داعي للإحراج.
لكن الممكن والمطلوب هو حسم الموقف من أمر الشرعية والحكم وصيغته في لبنان،
فإذا كان اتفاق الطائف هو قاعدة الشرعية ومنطلقها في “العهد الجديد” الذي أنجبه مشروع الحل العربي للأزمة اللبنانية، فإن المواجهة حتمية مع المتمردين على حكم اتفاق الطائف، ومن باب أولى مع الخارجين على الوطن، والملتحقين بالعدو في الجنوب المحتل.
وبالتجربة الحسية المعادة والمكررة فإن تجاهل الاحتلال الإسرائيلي والاختراق الإسرائيلي للنسيج الاجتماعي في لبنان لا يؤدي إلا إلى إجهاض مشاريع الحلول المقترحة لأزمته المستعصية.
فميشال عون، في هذه اللحظة، مثله مثل أنطوان لحد، بعض ثمار هذا الاختراق، والفارق الوحيد أن “العماد” قد استفاد من الحماية الضمنية التي يوفرها له الاحتلال الإسرائيلي بينما “اللواء” في الاحتياط ارتضى دور المرتزق والملتحق بالمحتل.
*للمناسبة فلا بد من طرح السؤال الموجع:
-هل هذا الغياب هو كل ما تملكه الدولة حيال مأساة الجنوب؟! ألا يستطيع الحكم أن يفعل شيئاً، أي شيء، لا في بيروت ولا في دمشق ولا حتى في طهران، إن كانت ثمة ضرورة للحديث مع طهران؟!
لا بد إن الحكم يستطيع أن يقدم شيئاً ما، مباشرة أو عبر وسطاء الخير، لشعبه في الجنوب الذي تطارده المطامع والمصالح كاللعنة.
ومؤكد إن موقفاً صريحاً وواضحاً سيضطر إيران إلى مراجعة حساباتها وإلى إعادة التفكير في أساليب تأكيد حضورها و”دورها” في “الساحة اللبنانية”.
فطهران، برغم كل مظاهر الاضطراب، أذكى من أن تضيع ما تبقى من الرصيد الذي وفرته لها الثورة الإسلامية، قبل عشر سنوات، في مغامرة لا يسندها إلا ادعاء بعض الرجال إن هيمنتهم على الجنوب، وبقوة السلاح، شرط لانتصار الدين الحنيف في فلسطين.
*للمناسبة أيضاً وفي السياق ذاته يطرح السؤال نفسه بنفسه:
-ألم يكن الأجدى والأنفع أن يتصدى نبيه بري، الوزير، ومن موقعه في قلب الحكم لصد غارة “حزب الله” في الجنوب؟!
فحتى اليوم يتعاطى جميع المسؤولين والمعنيين بالمأساة التي يعيشها الجنوبيون على إنه “اقتتال أهلي” بين الأخوة – الأعداء في حركة “أمل” و”حزب الله”.
وإذا ما كان الأمر كذلك، أو بقي كذلكن فإن من هم خارج المدى الحيوي للحركة والحزب لا يستشعرون أية مسؤولية ولا يجدون لأنفسهم أي دور في وقف هذه الحرب.
المخلص يعاني من وطأة الإحساس بالعجز، ولعله يستشعر قدراً من عذاب الضمير، أما من استهلكته همومه فيتذمر ويلعن هؤلاء الذين أضافوا مشكلة جديدة، قد تكون الأخطر، إلى المشكلات المعطلة للحل المرتجى والذي طال انتظاره وسيطول بعد هذه الحرب أكثر.
والسؤال مشروع وإن كان في ظاهره يوحي بسذاجة بالغة، أو ربما حمله بعض المغرضين على محمل القصد في استفزاز رئيس حركة “أمل”.
فالجنوب، كقضية، مسؤولية قومية ثقيلة تنوء بها أكتاف الدول والعرب مجتمعين، فكيف بتنظيم شعبي تظل قدراته محدودة مهما اتسعت دائرة تأثيره الجماهيري، سيما وإن منطلقه عاطفي ووجداني ووجهته تعويض حرمانه في السلطة والوطن وليس التغيير بالثورة أو التحرير بالكفاح المسلح.
ولقد آن أن يلبي نداء الجنوب كل القادرين على حماية الجنوب وكل المعنيين والمطالبين بحفظ أرضه وتأمين سلامة أهله،
وبداية فإن الدولة، كائنة ما كانت أوضاعها، هي المطالبة وهي المعنية والمسؤولة،
والحكم، بما هو الحكم، هو المرجع الصالح، أو يجب أن يكون، وعلى الجميع مساعدته لكي يكون،
فلا يجوز أن يكون “الوزير” نبيه بري هو المقاتل الوحيد بين أهل الحكم من أجل الجنوب، بينما يتفرج عليه سائر أهل الحكم ولسان حالهم يقول: هذا ما أردته أنت. لقد احتكرت الأمر والقرار، فتحمل النتائج إذن… واذهب أنت وربك فقاتلا.
ومن المؤكد أن بين أهل الحكم من لا يقل حرصاً على الجنوب وأهله من رئيس حركة “أمل”،
كذلك فمن المؤكد إن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين معنية بفاجعة الجنوب ليس فقط من باب التعاطف الأخوي والمشاركة الوجدانية، بلا أساساً من منطلق وحدة المصير… فمساحة لبنان أضيق من أن تتسع لوجع الجنوب، وتماسكه أقل صلابة من أن يتحمل سلخ البعض الباقي من الجنوب خارج قبضة الاحتلال الإسرائيلي عن مشروع الوطن،
فالجنوب مسؤولية كل مواطن، فكيف بالحاكم؟!
وبقدر ما تتوجب مساءلة المقصر ومحاسبته مسؤولاً كان أم خارج السلطة، فلا بد من رفع الحواجز عن طريق الجنوب وفتح الباب على مصراعيه أمام المواطنين جميعاً لأداء واجبهم الوطني والقومي.
لقد تولت حركة “أمل”، ذات يوم، مسؤولية “قرار الجنوب”، واحتكرت حق الإشراف عليه.
وبغض النظر عن مدى الصحة في ذلك القرار الذي أملته ظروف معينة، فإن زمانه قد مضى، ويجب أن تحرر “الحركة” نفسها من موجباته، وهي أثقل بكثير من أن تستطيع النهوض بها.
وليست هذه دعوة إلى حكم ثنائي للجنوب قوامه حركة “أمل” و”حزب الله”،
فليس المطلوب بأي حال تكرار الخطأ وقسمة مسؤوليته على اثنين.
بل المطلوب أن تتنازل “أمل” عن المسؤوليات التي تحملتها مضطرة وفي ظروف استثنائية، للجهة الوحيدة الصالحة والمعنية والمسؤولة أي الدولة وشرعيتها وحكومة اتفاق الطائف.
ولا نظنها مسألة صعبة أن يتنازل نبيه بري، رئيس حركة “أمل” لنبيه بري الوزير في حكومة الوفاق الوطني.
أما على المستوى الشعبي فإن أبسط واجبات حركة “أمل” مد اليد إلى جميع القوى والتنظيمات السياسية والشخصيات والهيئات للعمل معاً من أجل حماية حلم الوطن عبر حماية الجنوب وتأمين سلامته.
فليس الجنوب “مسألة شعبية”، وأصحاب هذا المنطق المشبوه لا يزورون الحقائق فحسب، بل هو يسوقون لمشاريع التوطين والتقسيم.
والجنوب أغلى وأقدس بكثير من أن يقرر مصيره بعض التنظيمات السياسية، كائنة ما كانت طروحاتها وشعبية هذه الطروحات.
ومن يقزم الجنوب بحيث تجعله إقطاعاً لهذا التنظيم أو ذاك، إنما يروج للمنطق الإسرائيلي الهادف إلى تمزيق وحدة البلاد بجعلها إقطاعات للميليشيات المحتكرة تمثيل الطوائف.
الجنوب بأهله، بوطنه، بأمته،
وبين أهله ومنهم حركة “أمل” و”حزب الله”، لكن هذا وتلك قطرة في بحر،
ولا تنتزع قيادة الجنوب أو الحق بتمثيله بقوة السلاح،
ولقد كانت إيران، من قبل أن تصير حزباً مسلحاً، أقوى في لبنان، منها اليوم بألف مرة… ولم يعوضها السلاح الثقيل ذلك الجمهور الذي جاء إليها بتأثير وهج الثورة وانفض عنها مع انتهاء فترة المد الثوري لحساب الدولة الإيرانية.
فالناس كانوا يطلبون الثورة، وثورة الإسلام على وجه التحديد، ولم يكونوا يقصدون إيران لذاتها.
ولقد تكون إيران، كدولة، عزيزة على قلوب اللبنانيين، عموماً، وبينهم أهل الجنوب، ولكنها تظل في عيونهم أجنبية كدولة، فتظل مصالحهم غير مصالحها، بل وهي قد تتناقض معها كما يظهر جلياً على أرض إقليم التفاح اليوم.
*للمناسبة أيضاً: في حين أن أقصى طموح المواطن اللبناني في الجنوب وغيره، هو استعادة النظام الجمهوري البرلماني الديموقراطي، الموصوف عادة بالليبرالية، فقد نقلت الوكالات خبراً عن تظاهرة حاشدة انطلقت في مدينة قم المقدسة، في إيران، وهي تهتف بالموت لآية الله منتظري.
التهمة الموجهة للشيخ الذي كان الخميني قد اختاره خليفة له في منصب “مرشد الثورة”، ثم عزله منه، هي: الليبرالية!!
*محطة أخيرة
بعد انتقال الرئيس الياس الهراوي من البقاع إلى بيروت، صار مشروعأً السؤال: – هل بدأ العهد الجديد؟!
وطريف أن يكون الحكم “ضيفاً” في عاصمته، في حين يمارس “التمرد” مهام “حكمه” غير الشرعي من القصر الجمهوري ذاته!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان