بينما تسقط الولايات المتحدة الأميركية حدود الدول جميعاً، وتمد هيمنتها فوق المعمورة (ولو إلى حين…) معززة هذه المرة بوجود عسكري مباشر، أرض وبحري وجوي،
… وبينما يتنازل الأوروبيون عن حدود دولهم، من أجل الوحدة، ويسقطون أحقاد التاريخ والمفاهيم “البائدة” للسيادة والكرامة الوطنية والعنفوان والعزة الوطنية الخ بكل ما كانت كلفتهم حروبها من ضحايا ودماء وخراب وأسلحة دماء وجيوش مستنفرة على مدار الساعة،
… فإن “الدول” العربية، وهي بمجملها ليست دولاً لا بل أقرب لأن تكون كيانات سياسية فرضتها ظروف القهر الاستعماري، وبررتها أحياناً الطائفية وأحياناً أخرى الصراعات القبلية وغالباً تفجر النفط، ما تزال مهددة بحروب لا تنتهي موضوعها الحدود وبواباتها وحق السيادة على الرمل أو الصخر أو النهر، بينما “السيد” الذي يحكم في العواصم جميعاً واحد يقول “للحاكم”: كن فيكون أو زل فيزول!
وإنه لخبر مفرح ، وسط هذه القتامة، أن يتوصل قطران متداخلان عبر التاريخ المشترك هما جمهورية اليمن وسلطنة عمان إلى اتفاق نهائي على الحدود بينهما، بعد مفاوضات عسيرة استطالت عشرين سنة وتخللتها مناوشات واشتباكات كادت في لحظات كثيرة تصير حروباً مدمرة “للشعب الواحد في الدولتين”.
بالمقابل فإن المفاوضات اليمنية مع المملكة العربية السعودية حول ترسيم الحدود تكاد تكون أعقد وأقسى من المفاوضات العربية – الإسرائيلية. ومع إن التشبيه قاس إلا أنه واقعي جداً. فلطالما ضغطت مملكة الذهب الأسود والهمس الأصفر والصمت الأبيض، على اليمن من أجل ترسيم الحدود وفق ما تراه هي، وما يناسب مصالحها بل أطماعها. ومعروف إن أكثر من انقلاب قد وقع في صنعاء بتحريض مباشر وتمويل سخي وفرته السعودية لبعض العسكريين وبعض مشايخ القبائل اليمنيين وأشهر شهداء اليمن في هذا المجال هو الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي الذي دفع حياته ثمناً لعناده الوطني. ويردد اليمنيون كلمة يحفظونها للرئيس علي عبد الله صالح، وقد وجهها إلى الملك فهد شخصياً خلال لقاء قديم معه في الرياض: “تستطيعون أن تعتقلوني لديكم هنا، وتستطيعون ربما أن تحرضوا على خلعي، لكنني إن قبلت بالتنازل عن ترابي الوطني فلسوف يقتلني اليمنيون بتهمة التفريط بل الخيانة”.
وإذا كان القطريون قد عضوا على الجرح، بعد الهجوم السعودي على مركز “الخفوس” الحدودي الذي وقع أمس الأول وذهب ضحيته جنديان بينما أسر لهم ثالث، فألغوا المركز، وأقفلوا الملف حقنا للدماء، فلا يعني هذا أن التصرف السعودي محق، أو إن الأطماع السعودية قد أسقطت، وإن دولة قطر ستنام آمنة في جوار شقيقتها الكبرى.
ولقد فعلها فهد مع صدام حسين: اشترى منه “الحدود”، عندما زاره قبل ثلاث سنوات، فدفع له “ترصيداً” لحصته من تكاليف الحرب العراقية – الإيرانية، وجعله يوقع على الحدود بين المملكة الغنية والعراق القومي (آنذاك)، وأكثر من ذلك: على معاهدة بعدم الاعتداء، (لم تعمر في أي حال إلا بضعة شهور..)!!
في أي حال، فحكام السعودية معذورون، إذ أنهم قرروا رفع عدد سكان مملكتهم ثلاثة أضعاف أو أكثر، حتى لا يظلوا في نظر العالم – والغرب بالذات – أشبه بالغاصبين أو السارقين أو الآخذين فوق حقهم وفوق ما يجوز لهم.
فمعروف أن السعودية تعاني من عقدة نقص موضوعها قلة عدد سكانها قياساً إلى مساحته الهائلة، والأهم: إلى ثروتها الأشد هولاً!! وهي كانت في عراك دائم مع الأمم المتحدة حول عدد السكان، إذ كانت المنظمة الدولية تشكك في الأرقام “الرسمية” السعودية التي تجعل سكانها أكثر من ستة ملايين بينما الأرقام الموثوقة تجعلهم أكثر قليلاً من أربعة ملايين (هذا في السبعينيات وأوائل الثمانينيات).
الآن تريد السعودية أن تجعل سكانها ثمانية عشر مليوناً على الأقل، وهي قررت الرقم أولاً، ثم أعلنت عن إجراء إحصاء للسكان…
إنها تريد بأي شكل أن تجعل عدد سكانها مماثلاً لعدد اليمنيين!! ومقارباً لعدد العراقيين!! ويزيد أضعافاً من عدد العمانيين!! ويفحم إبقاء الإمارات الصغيرة المتناثرة على امتداد الخليج العربي. والسكان، وفي هذه المملكة فقط، قرار ملكي
… وإن كان الأرجح أنه صدر رفعاً للحرج الأميركي،
ومن قبل كانت واشنطن قد ضغطت فرفعت السعودية سكانها (العام 1989) إلى أربعة عشر مليوناً ونصف المليون… تماماً كما ترفع الإنتاج النفطي لتخفض ثمن البرميل الواحد خدمة للتقدم الإنساني وحضارة القرن العشرين.
وطالما إن “السعوديين” يزيدون بأكثر من المعدلات في مصر، مثلاً، أو الجزائر، فلا بد أن تزداد مساحة المملكة… ولأن الأرض كروية و”تدور” حول الشمس، فلا بد أن تدور الدوائر على جيران المملكة القوية الآن بنفطها وبالمارينز الأميركي وبالهزيمة العراقية وبالارتباك الإيراني.
وعلى الضفة الأخرى للبحر الأحمر “يعس” صراع مرير، عنوانه المعلن “الحدود” بين مصر والسودان، في منطقة تدعى “حلايب”… وهو صراع قابل لأن يضخم إلى حد الحرب، وقابل أيضاً لأن يصغر إلى مستوى انقلاب عسكري في الخرطوم، وفقاً لحاجة “السيد” الأميركي.
… وإذا كان نظام حسني مبارك قد جمد، ولأغراض تكتيكية، الخلاف الحدودي مع ليبيا، ورد القذافي على التحية بأحسن منها، فلا يعني هذا أن الخلاف قد سوي وانتهى الأمر، بل هي نار تحت الرماد يمكن النفخ فيها في أي وقت، تماماً مثل النار الأخرى تحت الرماد على الحدود الليبية – الجزائرية والجزائرية – المغربية الخ!
إن حكام العرب يحبسون رعاياهم داخل “الحدود” ثم يحولون الحدود، الوهمية والمصطنعة، إلى “قضية كرامة وطنية” ، فيصبح خائناً من يحاول حسمها ضمن جو الأخوة والتوجه الوحدوي.
لكأنه ممنوع على العرب أن يصفوا تركة العصر الاستعماري.
ومؤسف أن يكون صحيحاً القول إن العهود الاستقلالية قد زادت من حدة هذه المشكلات المعلقة سيفاً على رأس المستقبل والمصير الواحد، بدلاً من أن تحسمها لما فيه خير “الشعب الواحد” أو “الشعوب الشقيقة”.
بالمقابل فإن العدو الإسرائيلي الذي يرفض وضع تخوم لحدود “دولته” مع العرب، يتمدد فيتبلع المزيد من الأرض العربية… فهو بعدما التهم الأرض الفلسطينية كلها، يكاد ينسف “مفاوضات السلام” بسبب تشبثه بمرتفعات الجولات السورية، بينما يرفض فتح باب الكلام – مجرد الكلام – في الأرض اللبنانية المحتلة، مكتفياً بتطمين من يريد أن يطمئن (بالهوى أو بالارتباط) إلى أنه لا يطمع بحبة تراب واحدة من الأرض أو نقطة ماء واحدة من المياه اللبنانية!!
يسكتون على الاحتلال الصهيوني ، الذي ذهب بالأرض والكرامة والسيادة والاستقلال وأحلام الوحدة والعزة والقوة، ثم يتحاربون على شبر أرض في صحراء من الأوهام بلا حدود!!
على أن هذا كله لا يمنع من تسجيل ملاحظتين إضافيتين حول هذه الأحداث المريبة التي تقع متزامنة – وبفعل فاعل وليس بالمصادفة – في بعض أنحاء الخليج:
*الأولى – إن الإيرانيين قد ارتكبوا خطيئة بتصرفهم الأخرق، في جزيرة “أبو موسى”، وكان منطقياً بالتالي أن تعود دولة الإمارات إلى المطالبة بكامل أرضها المحتلة، أي بجزيرتي “طنب الكبرى” و”طنب الصغرى”، إضافة إلى “أبو موسى”،
وما زال العرب يرون في التراجع عن هذا الخطأ مكسباً لغيران ولهم، في آن، أما التوغل فيه فلا يعني غير الشر والخراب والحصار وزيادة الهيمنة الأميركية على المنطقة كلها.
ولعل الشيخ زايد بن سلطان، يرفع صوته عالياً، ويستخدم لهجة حادة، حتى يقطع الطريق على المزايدين، ويمنع أولئك الذين طالبوه وما زالوا يطالبونه بتوقيع اتفاق حماية مع “المحرر” الأميركي من استغلال الخطأ الإيراني لفرض اتفاق الاذعان هذاز
*أما الملاحظة الثانية فهي إن السعوديين كأنما يريدون، عبر إشاعة جو من التوتر، التمكين لمزيد من التدخل الأميركي، بل ولمزيد من الوجود العسكري الأميركي في الجزيرة والخليج،
… وهو أمر سيوظف في المفاوضات العربية – الإسرائيلية في واشنطن، إضعافاً للموقف العربي (الضيعف أصلاً) وتمكيناً للإسرائيلي (المغطى أميركياً) من فرض شروطه على العرب كما على الرئيس الأميركي سواء أكان جورج بوش مرة أخرى أم كلينتون الذي يبدو وكأنه وصل لتوه من تل أبيب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان