أن “يقصف” أمين الجميل دمشق من واشنطن فهذا أمر مفهوم، بغض النظر عن فعالية هذا “القصف” الذي انتهى بتراجعه، مضطراً ، عن موقع “المحارب” ليبقى في موقع “الرئيس”،
أما أن “يقصف” أمين الجميل دمشق من قلب دمشق، وبالتحديد من قصر الضيافة المرتبط في أذهان السوريين واللبنانيين وسائر العرب بعبد الناصر ومجد الحركة القومية ودولة الوحدة (والكل يحتفل، اليوم، ولو بصمت، بذكرى القائد العظيم، والإنجاز العظيم)، فهذا أمر يتجاوز المتوقع والتقدير وحتى الخيال!
ومع الأخذ بعين الاعتبار مواصفات أمين الجميل الشخصية والعائلية والحزبية وحتى احتمال استغلال ما يرمز إليه موقعه طائفياً، فليس من حقه أن يهدد سوريا من دمشق، كما ليس من حقه أن يهدد الوطنيين والعقلاء وغير الموالين لشخصه ولعائلته وحتى لحزبه، في لبنان، من دمشق التي وصفت باستمرار بأنها قلب العروبة، والتي منعت في لحظات معينة – ومن أجل الحفاظ على هذا التصنيف – أن تقهر طائفة في لبنان طائفة أو طوائف أخرى.
وإذا كانت دمشق قد تدخلت ، مرة، لمنع مثل هذا القهر، لأنها افترضت أنه سيتم ، فمن حق الوطنيين جميعاً، مسيحيين ومسلمين، أن يطلبوا من دمشق التدخل لمنع أمين الجميل من قهرهم، مرة أخرى، بعدما حاول قهرهم مرة ومرات (من حرب الجبل، إلى حربي بيروت، إلى حرب الضاحية وكلها صبت في النتيجة، في طاحونة اتفاق العار الشهير الحامل اسم شولتس والموقع في 17 أيار 1983).
إن أمين الجميل الآن لا يحارب فقط دمشق والعرب معها ومن خلفها، وأساساً هوية لبنان العربية وانتماءه ودوره القومي.
إنه يحارب “الحل الوطني” في لبنان، ومن حق كل مواطن رأى أو افترض أن الاتفاق الثلاثي يمكن أن يوصله إلى هذا الحل المرتجى والمنشود، أن يقاتل لحماية أمله في غد، أي غد، وفي بلد، أي بلد، وفي دولة، أية دولة، حتى لو كان مركزها خيمة ورئيسها أي قادر على توحيد أرضها وفرض السلطة فوقهاز
إن 11 قمة بين أمين الجميل وحافظ الأسد كافية لكي يتأكد الناس من صحة حكمهم عليه بأنه لا يشكل نهاية للحرب الأهلية بل هو التجديد الأشرس لها.
ثم إن تجاربه الداخلية، قبل القمم المتعددة مع القيادة السورية التي أثبتت إنها أقدر قيادة عربية (بعد عبد الناصر) على التعاطي مع الشأن اللبناني. كافية لإثبات أنه قد ينفع كواحد من رموز الحرب واستمراريتها ولكنه دون مستوى المؤهل للحل أو القادر على قبوله وبالتالي على فرضه.
إن لبنان بحاجة إلى حل، ولا يحتاج إلى من يجدد حربه التي استطالت 11 عاماً ونيفاً، والتي يمكن أن تدون حتى ينتهي لبنان واللبنانيوةن إذا ظل حكام لبنان من هذا النمط الذي لا يجد له مكاناً خارج الحرب الأهلية، المحلية والعربية، ولهذا يديمها حتى يشيب الغراب.
وسوريا تحتاج في لبنان إلى حل، ولا تحتاج إلى من يستمر في استنزافها وفي استهلاك طاقتها القومية في صراعات ومنازعات قاتلة طبيعتها طائفية ومذهبية، مهما جرى تمويهها، وبالتالي فهي تخدم بالأساس مصلحة العدو الإسرائيلي، وتجهض احتمالات الغد الأفضل في لبنان كما على المستوى العربي العام.
من هنا يصبح ضرورياً أن يرتفع الصوت صارخاً: كفى قمماً، كفى مضيعة للوقت، كفى مداراة للمصالح العشائرية والعائلية والمذهبية والطائفية، إن للحرب جبهتين: أحداهما وطنية لبنانية وبالتالي قومية ينتظم فيها مع دمشق كل المؤمنين بعروبة لبنان، وبحقه في الخلاص من المستنقع الطائفي الآسن وبفتح نوافذه وأبوابه لأشعة الشمس والهواء النقي، والثانية إسرائيلية مهما كانت توصيفاتها المموهة والمخادعة والمخاتلة والمزورة بكليتها.
وذات يوم، وبعدما كان العالم يضج بأنباء “وثيقة شارون”، وهل هي صحيحة أم لا، وكيف تم الوصول إليهان اعترف أمين الجميل بأنه – هو شخصياً – وراء وثيقة شارون: هو الذي أوحى بها، وهو الذي كلف بها من عقدها باسمه، وهو الذي أراد أن يناور بها على الإسرائيليين، ثم حاول توظيفها لتحسين موقعه مع الأميركيين… فكانت النتيجة إن فقد هؤلاء وأولئك ولم يربح غير الحرب مع الوطنيين ومن خلفهم مع السوريين ومعظم العرب..
وفي لبنان، حتى اليوم، قوى وطنية الاتجاه أو الخيار تستطيع لعب دور أساسي في الصراع ضد الاتجاهات الخطأ والخيار الخطأ، بشهادة معارك أواخر 1982 وسنة 1983 كلها وصولاً إلى بدايات 1984.
ولقد تعززت هذه القوى بانضمام جناح قوي ومؤثر إليها في الخيار وفي العداء لنهج أمين الجميل المدمر لما تبقى من لبنان.
وليس مطلوباً من سوريا أن تتصدى مباشرة لقتال أمين الجميل، فهذه مهمة الوطنيين في لبنان.
ولكن المطلوب أن تتركهم يقاتلونه كما يجب أن يكون قتال المرتد والمجير موقفه وموقعه لحساب العدو، أو لحساب الحرب الطائفية القذرة، أو لحساب العبث، وهذا هو الأسوأ، إطلاقاً.
فإذا لم تقاتل هذه القوى أمين الجميل بسبب الخلل في موقفه من مسألة الوطن وتحرره ووحدته، انحرفت إلى الاقتتال في ما بينها، ثم انتهت إلى التورط في سلسلة لا تنتهي من الحروب التي لا يمكن أن تخدم أي اتجاه وطني أو قومي، والتي يعد أمين الجميل نفسه باستثمارها وتوظيفها لحسابه.
لقد انتهت مهمة دمشق السلمية مع أمين الجميل، وتكفي 11 قمة لإقناعها بأن تسليمه بما هو صحيح وضروري من أجل وحدة البلاد وإنقاذ شعبها، أمر مستحيل.
فلتترك إذن لقوى الشعب اللبناني الفاعلة والحية، والمتحالفة بالضرورة مع دمشق، أن تخوض معركتها إلى النهاية مع آخر ما تبقى من آثار الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، ولتتركها تصفي حسابها مع “بطل” اتفاق 17 أيار1983.
… خصوصاً وإن هذه القوى تتميز اليوم بأنها، وإلى حد كبير، نواة لجبهة سياسية غير طائفية، إذ تضم قوى ورموزاً، تمثل معظم الطوائف وتلتقي على شعارات سياسية وعلى خيار سياسي موحد.
لقد خسر أمين الجميل دمشق،
وقبلها كان قد خسر بيروت،
فدعونا نربح مع بيروت دمشق وإلا خسرنا الاثنتين معاً،
ولنعترف إنها المعركة الأخيرة لتحرير لبنان ابتداء من بعبدا، وإلا ظللنا في التيه حتى يجيئنا الطوفان!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان