رب ضارة نافعة، ورب مصادفة خير من ميعاد، ورب رمانة تكشف القلوب المليانة، ورب جريمة تكشف ما هو أخطر: الخطأ، ورب خطأ يكشف ما هو أدهى: الخطيئة.
بهذا المعنى فإن “حادثة الاعتداء على حاكم المصرف المركزي” تصلح لأن تكون “بداية ومناسبة للتعاطي الجدي وإعادة النظر الفاحصة في الوضع السياسي المغلوط الذي يعيشه الحكم وتعيشه الحكومة ومعها سائر مؤسسات الدولة.
إن كثيراً من القوى والفعاليات السياسية، وبعضها مشارك في الحكم، يريد نهاية سريعة، بل وفورية للحادث الخطير، معتبراً أنه ليس الأول وإنه لن يكون الأخير، وإنه ليس الأخطر بل لعل في كثير مما سبقه (داخل المصرف المركزي وخارجه) ما هو أدهى وأمر.
وبين هذه القوى والفعاليات من يهون من شأن الحادث من خلال إدراجه في سياق إفرازات الحرب الأهلية وبين ثمارها المرة، ولا يرى فيه أكثر من “إشكال أمني” يعالج في إطار العقوبات المسلكية وبوحي من موجبات الانضباط العسكري، وكفى الله المؤمنين شر القتال…
لكن الغالبية العظمى من اللبنانيين ترى في الحادث نتيجة لتراث متراكم من سوء الممارسة السياسية، وتعطيه أبعاداً سياسية خطيرة تتجاوز أشخاص أطراف النزاع المباشر، أي وزير الداخلية وحاكم مصرف لبنان ومن سعى بينهما بالوقيعة والتحريض حتى وقوع الاشتباك بين أجنحة الشرعية وأدواتها.
وبقدر ما تتعاطف هذه الغالبية مع الدكتور ادمون نعيم (ناطور الذهب والليرة وربما المفاتيح) فإنها لا تقف في تحديد المسؤولية عند شخص وزير الداخلية الياس الخازن، بل هيه تتجاوزه للمطالبة بفتح ملف الممارسة كما تصدر عن الحكم والحكومة في هذا الظرف العصيب.
ومع وعي هذه الغالبية لاحتمالات التوظيف القذر للحادث المستنكر ونتائجه من قبل خصوم الشرعية وأعداء الوطن ووحدته وسلامة الحكم فيه، فإنها تصر على فتح الملف برمته وإجراء محاسبة شاملة للمعنيين والمسؤولين عن صورة الحكم والحكومة كما ترسخت في أذهان الناس.
ومن الأمانة أن نعترف أن هذه الصورة ليست زاهية الألوان ولا هي مبهجة أو مريحة كما إنها ليست مصدراً للثقة بالحاضر أو التفاؤل بالمستقبل.
… خصوصاً وإن الناس ينظرون إلى هذه الصورة في ضوء حاجتهم الملحة إلى شرعية قادرة على استعادة “الشرقية” ، بل “الشرقيتين”، وتوطيد الأمن وانتظام الإدارة في “الغربية” بل “الغربيتين” إذاما استذكرنا الضاحية، وتحرير المحتل من أرض الوطن وهو ليس “بشريط” بل نصف جنوب لبنان أو يزيد.
إن المقياس الموضوعي للمحاسبة هو القدرة على مواجهة، ومن ثم إنهاء حالات التمرد المسلح والتقسيم المسلح والاحتلال المسلح، وإقامة “الجمهورية الجديدة”، جمهورية الوفاق الوطني على قاعدة اتفاق الطائف.
وفي ضوء احتياجات المواجهة، وهي مفروضة فرضاً وليست خياراً أو فعل إرادة، تصبح المطالبة بمحاسبة وزير الداخلية مدخلاً إلى محاسبة الحكم كله، بالعلاقات الداخلية في ما بين أطرافه ومؤسساته، وليست دعوة إلى الانتقام من الشيخ الطيب والحمش الياس الخازن.
وحسناً فعل هذا القبضاي الكسرواني بوضع نفسه بتصرف مجلس الوزراء، فهو المرجع الطبيعي الصالح لمعالجة أخطاء الممارسة في الحكم والحكومة.
ولعل محاسبة “أضعف الحلقات” تكون مناسبة ذهبية لمراجعة “السجل العدلي” لهذا الحكم بما أنجزه وما لم ينجزه على امتداد المائة وثمانية أيام التي سبقت وقوع “الاشتباك” بين أطرافه في مبنى “بيت مال” اللبنانيين بشارع الحمراء في قلب عاصمتهم بيروت.
شرط المحاسبة الصراحة المطلقة، وفي هذا المجال يمكن أن يقال الكثير:
*يمكن أن يقال، مثلاً، إن الحكم الذي ولد بعملية قيصرية بعد اغتيال الرئيس الأول لجمهورية الطائف، الشهيد رينيه معوض، قد جاء حاملاً بعض التشوهات التي يصعب إخفاؤها بالتجميل أو التمويه أو غض الطرفز
فرئيس الجمهورية ، هذه المرة، جاء وكأنه “وكيل لميت”،
صحيح إنه انتخب وفق الأصول الديموقراطية البرلمانية، لكنه إلى ما قبل يومين من انتخابه لم يكن يطلبها أو يتوقعها وبالتالي فلم يستعد (أو لم يعد لها) الإعداد الكافي.
*ويمكن أن يقال، مثلاً، إن الحكومة التي استولادت فجر اليوم التالي كانت “الحكومة الممكنة” وليست المطلوبة، وإن السرعة في استيلادها غلبت على الدقة في اختيار أعضائها، ثم أن تخوف بعض “المختارين” قد أصابها بخلل فاضح، خصوصاً وإنهم لم ينسحبوا مفسحين في المجال لغيرهم كما إنه قد عز المتطوعون لملء الفراغ المحتمل، وهو فراغ يحمل لون الطائفة العظمى وبالتالي فلا عوض عنه ولا معوض!
*ويمكن أن يقال، مثلاً، أن هذه الحكومة جاءت لطيمة، يتيمة الأبوين، فرئيس الحكومة ينكرها ورئيس الجمهورية لا يتبناها، وأعضاؤها يرون فيها تحالفاً بين إمارات وإقطاعيات وكانتونات وطوائف ومصالح أكثر مما هي “مؤسسة واحدة موحدة” لتولي شؤون العباد والبلاد.
*ويمكن أن يقال، مثلاً، إن صورة الحكم طالعت الناس مهزوزة، فيها شروخ وندوب، وقد قبلوها على مضض لعل وعسى أن يصلح الزمن الحال وتفرض المحنة وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الأداة.
*ويمكن أن يقالن مثلاً، إن الامتحان القاسي الذي كان يفرض نفسه على البلاد، عبر التمرد المسلح بقيادة جنرال التعتيم، كما عبر الطرح الانفصالي لحكيم التقسيم، قد كشف وبسرعة العجز العضوي لهذا الحكم الذي استولدته الظروف القاهرة قبل أن يكتمل نموه الطبيعي.
*ويمكن أن يقال، مثلاً، إن هذا الحكم، بسبب من التنافر البين بين أطرافه، وبسبب من الغربة التي كانت تباعد بينهم بالممارسة أو بالمزاج – وبسبب من السلوك التقليدي الذي اعتمده في مواجهة ظروف استثنائية (جلسة واحدة لمجلس الوزراء كلما أمكن، وفي أحسن الحالات كل أسبوع)، لهذا كله ولغيره من الأسباب المعروفة لم يستطع اكتساب صورة المرجعية الوطنية المؤهلة والقادرة، ولا هو نجح في تقديم نفسه إلى جمهوره المتلهف على استيلاد أو انبعاث الدولة في صورة المؤسسة الموحدة والجامعة لاشتات المواطنين ومزق الوطن، ولو بالموقف السياسي الواضح والحاسم والمطمئن على المصير… ولو بعد حين.
ظل أطراف الحكم أحاداً متاوزية، يجلسون متجاوزين، وربما نشأت بين بعضهم والبعض الآخر علاقة حسن جوار، وربما أنشأ البعض مع البعض معاهدات عدم اعتداء، لكن صورة الحكم – كوحدة، كمؤسسة، كمرجعية وطنية – ظلت مهزوزة وغير مطمئنة.
بل لقد ظلت الخصومة – السياسية المموهة باختلاف المزاج الشخصي أو الشخصية المبطنة بعدم توافق سياسي – تحكم علاقات بعض الأطراف الأساسيين في الحكم.
وليس من باب المبالغة أو كشف الأسرار أن يقال إن المصارحة ظلت غائبة، بشكل عام، عن اجتماعات مجلس الوزراء، وربما عن اللقاءات الثنائية بين كبار المسؤولين،
ومن باب أولى أن يشار إلى أن جلسات العمل، الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية الخ، ظلت مفتقدة، في حين أن البلاد تحتاج أكثر ما تحتاج إلى جلسات عمل جدية تحضر فيها ضرورات المواجهة المفروضة في الحاضر، ومستلزمات إعادة البناء في المستقبل.
*ويمكن أن يقوال، مثلاً، إن العلاقات قد بدأت مختلة واستمرت مختلة بين الحكم الجديد – القديم (ببعض أجنحته) وبين مصرف لبنان وحاكمه الذي استمد من فراغ السلطة في فترة خلو سدة الرئاسة الأولى ما جعله “دولة” قائمة بذاته أو سلطة فوق السلطات، أو مرجعية لها حق الرقابة والمحاسبة والبت – رفضاً أو قبولاً – في مطالب أطراف الحكم والحكومة.
لقد جاء الحكم مثقلاً بتركة ما قبله، ومطالباً بإنجاز ما لم يفرض على أي حكم آخر سبقه أن ينجزه، إذ فرض عليه – بافضال حرب التحرير وحروب الأخوة الأعداء – أن يبدأ من تحت الصفر.
ولقد استمر بعض الوزراء يمارسون مسؤولياتهم كما سبق لهم أن مارسوها في فترة القطيعة والمقاطعة أم في فترة الحكومتين والتنازع على الشرعية وتمرير الأور بتوقيعين احدهما ظاهر والثاني مستتر أو مطموس.
كذلك استمر المصرف المركزي، بشخص حاكمه، يتصرف وكأنه الجهة الوحيدة الموحدة والموحدة، والمرجع الاخير في الشؤون النقدية والمالية والاقتصادية جميعاً، خصوصاً وإنه ممول الدولة وحكمها وحكومتها وإدارتها ابتداء من الرواتب وانتهاء بمخططاتها الانمائية، ناهيك بموجبات إعادة البناء.
يمكن الاستطراد في هذا السياق إلى ما لا نهاية، لكن ما لا بد من الوقوف أمامه أن هذا الحكم وحكومته اللطيمة وسائر المؤسسات الشرعية من مجلس النواب (الذي غاب عن الوجود منذ أواخر تشرين الثاني) إلى الجيش (الذي لم تعلن ولادته بعد)، إلى قوى الأمن الداخلي (الكثير عديدها الضعيف حضورها والمعطلة فعاليتها)، كل ذلك قد صدم اللبنانيين وهز ثقتهم، بالعهد الجديد وقدرته على إنجاز الحد الأدنى من احتياجاتهم، حتى لا يقال: تطلعاتهم.
فلما جاءت الحرب على الشرقية بين طرفين خارجين على الشرعية ومهددين بل مانعين لوحدة البلاد، تلقى الحكم لطمة قاسية أصابت مصداقيته ان افتقد موقفه (بمعزل عن قدرته) بل وافتقدت وحدة هذا الموقف، فكان لكل طرف فيه رأي، وربما نسج بعض أطرافه تحالفات متعارضة مع تحالفات أخرى (ولو تكتيكية) نسجها سائر الأطراف.
على أن الأدهى والأمر هو ما أصاب هذا الحكم في سمعته مما يمس ذمته المالية،
وقد لا تكون هذه الحكومة قد أنفقت – في الصح والغلط – أكثر مما أنفقت سابقاتها،
وقد لا تكون بين وزرائها من انتفع أو استقطع لنفسه من وجوه الانفاق والعمولة والمخصصات أكثر مما “جنى” أسلافه الصالحون،
وقد لا تكون الأرقام الفلكية للاعتمادات التي طالب بها بعض الوزراء فأعطيت (أو لم تعط لهم) صحيحة ودقيقة كما جرى نشرها.
لكن المؤكد أن اللغط قد تزايد وإن الاشتباه قد انفلت من عقاله متناولاً معظم أطراف الحكم، من دون أن يستثني شخص رئيس الجمهورية وبعض القريبين منه وإليه.
ولا بد من التنويه أن كثيراً من الشائعات والتقولات ربما تكون قد جاءت “مصدرة” من أطراف التمرد والخروج على الشرعية في الشرقية، وإن بعضها قد يكون من إنتاج خصوم الحكم ومن أبعد عنه،
غير أن الواقع إن الناس كانوا يسمعون عن المليارات ثم يلتفتون إلى الارض فلا يجدون إنجازاً، فتتزايد شكوكهم وريبتهم إلى حد اليأس من الشرعية والعهد الجديد وجمهورية الوفاق الوطني العتيدة.
… خصوصاً وإن أهل الطائف لم يتحمسوا كثيراً لمولودهم اللبناني، فحجبوا عنه ما يمكن أن يغطي التشوه، ولم يستروا عيبه بذهبهم الوهاج.
إن ما وقع في مصرف لبنان، ولشخص حاكمه المؤتمن على رغيف اللبنانيين، أخطر من أن تتم معالجته بمساءلة وزير الداخلية أو بقبول استقالته أو بالمطالبة بإقالته.
إنه يستدعي إعادة النظر في كل ما تم حتى اليوم بهدف تصحيح صورة الحكم ومعالجة التشوهات التي رافقت ولادته المتعجلة.
ولعله يستدعي التوجه بالمساءلة والحساب إلى أطرافه جميعاً، يحاسب كل نفسه ويحاسب شركاءه في المسؤولية، وصولاً إلى توحيد الحكم – بمؤسساته جميعاً – وتعزيز قدراته بحيث يقدم نفسه إلى الناس في الصورة التي يرتجونها له،
فالناس، في الشرقيتين كما في الغربيتين، مع الشرعية. مع الدولة، مع الحكم، ولكنهم ينتظرون أن يتقدم إليها هذا الحكم قائلاً: ها أنذا، أتوني بمتاعبكم وهمومكم جميعاً وساعدوني لكي أنجز.
لكن الشرط الأول لهذا كله أن يكون الحكم حكماً والحكومة حكومة والشرعية مصدراً أوحد للسلطة لا تستأذن ولا تمالئ متمرداً أو خارجاً عليها ولا تخضع لابتزازه من أجل الاعتراف بهاز
والدولة، في خاتمة المطافن ليست خزينة، وليست مشاعاً، والحكم ليس شركة مساهمة ولا مزرعة لكل من أطرافه فيها نصيب…
بهذا المعنى قد يكون حادث الاعتداء على حاكم مصرف لبنان فرصة للحكم كي يعيد النظرفي خطته (إن كان له خطة) لحكم لبنان، كل لبنان، واللبنانيين، كل اللبنانيين بمن فيهم أولئك الذين “سرقهم” منه التمرد المسلح أو الانفصال المسلح أو الاحتلال المسلح.
ولعلها فرصة ممتازة كي يعيد الحكم استيلاد نفسه بغير تشوهات!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان