يقدّر على بعض القادة، وهم الذين يصنفون عادة “بالتاريخيين” أن يعيدوا اكتشاف بلادهم بموقعها وإمكاناتها وقدراتها الكامنة، فيعوضوها بالدور والمكانة ما كان ينقصها أو يعز عليها بسبب من الحجم ونقص الثروة.
ولقد أعاد حافظ الأسد “اكتشاف” سوريا بنجاح ملفت فيسر لها أن تلعب دوراً فريداً في هذه المرحلة الشديدة الدقة، ووفر لها أن تحتل مكانة مميزة سواء على الصعيد العربي أم على الصعيد الدولي.
وبالتأكيد فإن حافظ الأسد قد تجاوز، بإنجازه الفعلي، طموحات طالما دغدغت صدور القيادات الوطنية السورية منذ بداية القرن وحتى أواخر الستينات، وشعارات طالما ارتفعت بها أصوات المتظاهرين المناضلين من أجل دور قيادي لسوريا يعوضها ما فقدته – من حجمها ومكانتها – نتيجة التشليع والسلخ والتقسيم بمعاهدة سايكس بيكو الاستعمارية أو بالخطط الإمبريالية التي واكبت ورعت مشروع إقامة الكيان الصهيوني على أرض جنوبها… فلسطين.
كانت سوريا، في نظر نفسها وفي نظرسائر العرب، قلب العروبة النابض.
ولقد أعطاها حافظ الأسد الذراع والسيف كما وفرّ لها بقيادته الفذة العقل والحكمة والقدرة على مواجهة الصعب بدم بارد وحساب دقيق وقراءة ذكية للخريطة السياسية.
عاشت سوريا بعد استقلالها السياسي بإجلاء الانتداب الفرنسي أزمة وجودية عنيفة، إذ رأت أحلامها القومية تتهاوى وتتقلص في علم ونشيد ومراسم لدولة من كرتون.
كان شعبها بمشاعره كما بوعيه لمصالحه أعظم من أن يحاصر بالفقر والعجز والتخلف وسائر قيود الكيانية والقطرية،
فوجدانه قومي وكذلك مصالحه،
والتعويض الوحيد عن التجزئة والسلخ والاقتطاع يكون بالوحدة العربية، وليس إلا بها،
ومن انخرط في الجندية كان يفترض أنه إنما هو ذاهب إلى الجهاد من أجل الدولة العربية الواحدة،
لذلك كان زلزال النكبة في فلسطين عنيفاً وحاد النتائج على “السوريين” أكثر مما كان على غيرهم من أخوانهم العرب، بدلاً من الانتصار جاءت الهزيمة، وبدلاً من استعادة الوحدة تكرس الانفصال بمشروع استيطاني – استعماري، وبدلاً من القوة والمنعة جاء الانهيار ومعه الذل والشعور بالضعة والهوان.
وفي مجال الرد على الزلزال وحصر آثاره المدمرة وتجاوزها باستنهاض الأمة، يمكن قراءة سلسلة الهزات والتقلبات التي عاشتها سوريا وهي تبحث عن ذاتها وعن دورها وأيضاً عن أمتها.
ومع إن سوريا كانت السباقة إلى إعلان إفلاس النظام العربي، في العام 1949، ومع إن جيشها كان أول جيش عربي يجاهر برفضه للهزيمة في مواجهة الكيان الصهيوني، فلقد كان عليها أن تنتظر بضع سنوات لكي يصل الشريك التاريخي الذي لا عوض عنه ولا بديل له: مصر، ومصر الثورة، مصر القومية، مصر جمال عبد الناصر على وجه التحديد.
… وفرضت سوريا الوحدة، وفوضت الأمر إلى القائد الخارج لتوه بنصر مؤزر من معارك مجيدة وتاريخية لأنها قومية بطبيعتها وبوظيفتها وبمردودها الخير.
فسوريا لا تجد نفسها خارج القومية، وتستشعر مع الكيانية غربة تصل إلى حد الحرب ضد الذات، ولعل هذا بين ما يفسر إن عهد الانفصال لم يعمر طويلاً، وإن المناخ الوحدوي سرعان ما ساد مجدداً في سوريا (وبعد فترة مضنية من القلق والتيه والضياع في صحراء التطرف والمغامرة التي كثيراً ما بلغت حدود المقامرة).
وحافظ الأسد هو الابن الشرعي لهذا المناخ الوحدوي الذي شكل قوة طاردة للتطرف والمغامرة عبر حركته التصحيحية قبل عشرين سنة من اليوم.
أكثر ما يحلو الحديث لحافظ الأسد ومعه في الوحدة،
هي موضوعه الأثير وحلمه السني وهدفه الأسمى وراية نضاله وبوصلة توجهاته وحركته السياسية الواسعة.
الوحدة هي المستقبل، هي القوة، هي المجد، هي مصدر المكانة والدور.
وإذا كان قيامها وتجسدها في دولة صعباً في هذه الظروف ولاعتبارات عديدة. فلا أقل من اتخاذها نبراساً هادياً وقاعدة للحكم بالصح والغلط على الممارسات السياسية وأساساً للعلاقات مع الأشقاء ومع الأصدقاء وكذلك مع القوى المعادية في هذا العالم المتحول.
فلسطين قضية وحدوية عند حافظ الاسد، وكذا مصر، وخاصة مصر،
أما لبنان مع سوريا فـ “شعب واحد في دولتين”،
وفلسطين تستحضر صلاح الدين ومثله،
وفي قاعة الاستقبال التي التقى ويلتقي فيها حافظ الاسد الملوك والرؤساء والكبراء من أجانب وعرب، تتصدر الجدار لوحة كبيرة ووحيدة لجانب من معركة حطين.
حطين هي الخلاصة المركزة: الوحدة طريق التحرير وسلاحه، وسوريا هي السيف متى كانت مصر الترس والقاعدة.
قلة من الرجال يحتلون مكانة العلامة الفارقة في التاريخ إذ ينقسم بهم إلى ما قبلهم وما بعدهم،
حافظ الأسد هو واحد من هذه الكوكبة المختارة، فقبله كانت سوريا – الدولة والدور، المكانة وحجم الإنجاز – غيرها في عهده،
وحافظ الأسد علامة تقدم فارقة في عصر الهزيمة العربية،
ولبنان شاهد لحافظ الأسد: شاهد على قوميته، وشاهد على حنكته ودهائه وبراعته السياسية القائقة، شاهد على شجاعته في اتخاذ القرار الصعب في اللحظة المناسبة تماماً، لا قبلها بثانية ولا بعدها بثانية، وشاهد على سرعة التقاطه للفرصة السانحة – دولياً – لكي يجرز شيئاً من التقدم، في اتجاه هدفه، ولو لمتر واحد.
وإذا كانت “سوريا الحديثة” شاهداً ناطقاً بإنجازات عصر حافظ الأسد، فإن لبنان الوحدة الوطنية والسلام في ظل الحل العربي لمأساة الحرب الأهلية فيه، شاهد على الكفاءة السياسية النادرة التي يتحلى بها قائد الحركة التصحيحية.
لقد كان يقال دائماً إن حكم سوريا صعب والاستمرار فيه مستحيل.
كذلك كان يقال دائماً إن التبديل أو التغييرأو التطوير في لبنان هو معركة ضد العالم لا يمكن أن تنتهي بانتصار الإرادة الوطنية أو القومية.
وها هو حافظ الأسد، بعد عشرين سنة، على رأس سوريا قوية وقادرة وذات دور هائل يتجاوز بكثير حجمها وإمكاناتها وثروتها الذاتية،
كذلك فهو حافظ الأسد، بعد ست عشرة سنة من الحرب الأهلية في لبنان، المنتصر الأبرز في معركة تعددت أطرافها حتى كادت تشمل عواصم العالم كله.
ومن حق حافظ الأسد على لبنان اليوم أن يلتفت إليه مهنئاً ومحيياً دوره القومي فيه.
إن سوريا ضمانة أكيدة ودائمة للعروبة في لبنان،
ولقد أضاف حافظ الأسد إلى هذا الدور ضمانة الدولة في لبنان، الدولة ذات الانتماء القومي،
ولقد توالت الأحداث بوتيرة هائلة السرعة والتبدلات بين بدايات صيف العام 1976 وعملية إسقاط “التمرد” في 13 تشرين الأول 1990، لكن المحصلة الأخيرة كانت : إن حافظ الأسد صار المرجع الأول والأهم للبنانيين جميعاً وعلى اختلاف فئاتهم ومللهم ونحلهم وانتماءاتهم الفكرية.
وإنه لدور تاريخي أن يرى فيك المحب والمحايد والكاره، وحتى من كان يستشعر الخصومة، إنك مرجعه والملاذ.
وإنه لإنجاز تاريخي أن يكون لبنان (النظام) صار هو الساعي إلى علاقة مميزة مع سوريا، توفر له الحماية وسبل التقدم، بينما كان لبنان القديم يستعلي بغربيته المزعومة على العروبة في سوريا.
وفي هذا بعض معاني العيد العشرين،
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان