اللبنانيون يطلبون قمة ويتمنون انعقادها اليوم قبل الغد، لكنهم يعرفون إنهم لا يملكون حق طلب انعقادها، وإن إلحاحهم لن يفيد في التعجيل في موعدها العتيد، كما يعرفون إنها لتن تنعقد – متى انعقدت – تحت العنوان اللبناني ، وإن همومهم لن تكون البند الأول على جدول أعمالها.
مع ذلك فهم ينتظرونها على نار احتياجهم إليها،
وإذا كان صحيحاً التفسير الذي أعطى للرسائل التي وجهها فهد بن عبد العزيز إلى سائر الملوك والرؤساء العرب، من أنها تتضمن الدعوة إلى قمة، فلسوف تنتعش آمال اللبنانيين بالتقدم نحو مشروع الحل العربي العتيد لأزمتهم المستعصية.
ومع استبعاد صدور مثل هذا المبادرة، فجأة وبغير إعداد أو استعداد مسبق، عن حكم حذر ومتشكك ولم يشتهر بالاقدام، كالحكم السعودي، تظل الحاجة إلى قمة عربية قائمة وضاغطة في ظل التحولات الهائلة التي يشهدها العالم والتي لا يصل العرب منها إلا ما يسيئهم ويسيء إللاى دورهم وإلى مكانتهم وإلى حقهم في مستقبل أفضل فوق أرضهم.
وليس من باب العصبية أو الأنانية أن يستشعر اللبنانيون تناقصاً مطرداً في الاهتمام العربي بلبنان، بينما تتزايد المخاطر الجدية التي تتهدد شعبه وتنذره بحروب مفتوحة وويلات غير مسبوقة يتصدرها التقسيم كتجسيد للتمرد العسكري القائم في الشطر الشرقي من العاصمة.
فبين زمن الطائف وزمن بيروت تبدلت تفاصيل كثيرة في صورة الوضع اللبناني، وحصل بعض التقدم، لكن جوهر الأزمة لم يتبدل، بل لعل تعقيداتها قد تزايدت بعدما اكتسبت ملامح “الحالة الشعبوية” بحساسية طائفية مفرطة، وقد كانت من قبل “مشكلة” داخل إحدى الطوائف، حلها ممكن ومتيسر وغير مكلف!
ومع تساقط “الفرسان” اللبنانيين لاتفاق الطائف، بالاغتيال وسائر أصناف الإرهاب، أو بالتخاذل والتردد في المواجهة بأمل تجنب تبعاتها، أو بملل انتظار النجدة واليأس من أهل الطائف، يستشرس التمرد العسكري الذي “تعنتر” فلم يرده أحد،
وغني عن البيان إن ميشال عون يكسب مزيداً من الأرض ومن أسباب الحياة والاستمرار كلما أثبت لجمهوره الملووث بالهستيريا الطائفية، إنه – بمفرده – أقوى من أهل الطائف مجتمعين، بالعرب فيهم والأميركيين وسائر الخلق!
وبغض النظر عن الكاريكاتور في تقمصه لدور الدكتاتور، فإن ميشال عون يبدو وكأنه مقرر المصائر وصانع المقادير، المانح المانع، المتحكم بأمور الحرب والسلام، في حين يحار أهل الطائف في أمر مواجهته: أين ومتى وكيف تكون!!
… وها هو ميشال عون يلبس لبوس الحرب، بالسلاح، ويدفع بالأزمة نحو التفجير العسكري، فارضاً على الشرعية الوليدة أن تواجهه على الأرض التي اختارها وبالشروط التي تناسبه.
لقد بدأ بالمنطقة الواقعة تحت هيمنته “فطهرها” من كل صوت مختلف ضرب، أولاً، البطريرك الماروني، فأرهب به جورج سعادة وكتائبه المسالمة، واربك سمير جعجع و”قواته” المقاتلة، وألغى “النادي السياسي” ممثلاً بالنواب الحاليين والسابقين، بل هو ألغى العمل السياسي كلياً وكان منطقياً من بعد أن يشطب الصحافة وسائر أجهزة الأعلام كأدوات تعبير عن حياة سياسية غير موجودة.
وبمقدار ما كان حكم الطائف يحاول التمظهر كسلطة شرعية لدولة غيبتها ظروف قاهرة في فترة سابقة ثم عادت إليها الروح بقرار عربي – دولي، كان ميشال عون يندفع أكثر فأكثر في اتجاه توكيد وحدانيته كممثل فرد ليس للمسيحيين وإنما لمشروع الوطن القومي المسيحي و”دولته” قيد التأسيس.
ولما كانت “العاصمة” شرطاً لعودة الدولة ولتوكيد حضور الحكم فإن “حرب” عون قد استهدفت، مرة أخرى العاصمة التي طالما هددها بالتدمير (وحاوله!!)، وهكذا استبق تنفيذ الخطة الأمنية لبعثها بتهديدها بالعطش والعتم وقتل المسؤولين فيها وعنها.
وكلما أقدمت الشرعية الوليدة على خطوة في الاتجاه الصح ستعنف حرب عون عليها لاستدراجها إلى المواجهة قبل أوانها وبأسلحة يختارها هو مستغلاً العطب الفعلي في عقل جيل الحرب الأهلية الذي تشده الطائفة بأكثر مما تشده الدولة، وتثيره المعارك بأكثر مما يثيره السلام، ويستهويه القائد الفرد بأكثر مما تستهويه القيادة الجماعية، وتجذبه العنتريات بأكثر مما يجذبه المنطق أو تجذبه المصلحة ذاتها (وهو لم يتعرف إليها بعد).
وسيقاتل عون الخطة الأمنية، أو بالأحرى بيروت بعنف متزايد وشراسة لا حد لها كلما خرجت من قوقعة العفن والقمامة والميليشيا والإهمال المقصود وتبدت كأميرة، كواحة أمان، وكعاصمة لجمهورية ذات نظام ديموقراطي برلماني، وكمركز لحكم ذي قضية، والأهم: كامتحان جدي للإرادة العربية (والدولية) في إنهاء الحرب اللبنانية المفتوحة.
إن العدو الأول لميشال عون هو “الدولة” بصورتها الأصلية، أي بما هي المؤسسات الدستورية (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، ولذلك فلقد عطل، أول ما عطل في دائرة هيمنته هذه المؤسسات، ثم ألحق بها كل الهيئات التمثيلية (سياسية كانت أم حزبية، روحية كانت أم زمنية)… وهكذا صار بشخصه “الدولة” والحكم والحكومة والمؤسسات والشعب!
المال في صندوقه هو، وباسمه هو (فإن كان لا بد من شريك في التوقيع فزوجته)!!
والسياسة لعبته هو وحده، فمن يريدها فليطلب منه الترخيص والشعار والمنهج.
والعسكر عسكره هو، لا عسكر غيره ولا عسكر لغيره حتى ولو في موقع الحليف،
أليس هذا كله من اختصاص أهل الطائف؟!
هل هم معنيون فقط بالاتفاق والموافقين على الاتفاق؟!
فمن إذن للمعارضين، بل للمقاتلين ضد الاتفاق والساعين لإسقاطه في كل لحظة؟!
إن البند اللبناني على جدول أعمال القمة، هذه المرة، سيكون عنوانه التقسيم كخطر داهم وليس إنجازات اللجنة العربية العليا وأعظمها اتفاق الطائف، وحكومة الوفاق الوطني.
وليس بالمال وحده، أو بالدعوات الصالحات، أو ببيانات الدعم والتأييد الفخمة العبارات يمكن إسقاط التقسيم وإبطاله الذين يقاتلون الدولة بسلاح الدولة ومالها ورجالها بعدما تحصنوا وراء المتراس الطائفي المتماسك بتأثير هستيريا التماثل مع “شعب الله المختار” المتزايد عدداً الآن على أرض فلسطين بفضل هجرات حقوق الإنسان إليها!!
وبهذا المعنى فإن القمة مطلوبة لإنقاذ أهل الطائف وحفظ ماء وجههم قبل أن تكون مطلوبة من أجل لبنان واللبنانيين،
ولعل هذا ممكن الأمل في قرب انعقادها وفي اضطرارها لأن تكون صاحبة قرار!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان