مع ولادة العهد الجديد، عهد التوافق وبالإجماع الوطني على ضرورة الخروج من أتون الحرب، وبعث الدولة ومؤسساتها الشرعية، فتح جنرال الحرب جبهة جديدة وأطلق زبانيته من الموتورين والمشبعين بحمى التعصب الطائفي لكي “يحرروا” بكركي من البطريرك الماروني دافعين به دفعاً إلى المناطق الخاضعة والخانعة والمستسلمة للاحتلال السوري!
وكما كان يريد اميل اده إعادة مسلمي لبنان إلى الصحراء، باعتبارهم قد جاءوا منها ، فإن “الجنرال” يعيد الآن بالمقابل موارنة لبنان إلى وادي قنوبين وأرض المردة وجبالها العاصية، باعتبارهم قد جاءوا منها!
ولقد قدم ميشال عون نفسه، يوم أمس، في صورته الطبيعية وبأكثر مما فعل من قبل: إنه ليس عدو حل بالذات، وليس خصم حكومة أو مرجعية بالذات، وليس خصم طائفة بالذات، بل هو عدو “الحل” بالمطلق، وهو عدو “الدولة” طالما لم تكنه ولم يكنها، كما لويس الرابع عشر، وعدو المرجعيات جميعأً السياسية منها والعسكرية والروحية لأنه يفترض إنها تقاسمه السلطة وتحرمه من التفرد والاستئثار والظهور بمظهرالقائد والزعيم والمرجع والحاكم والرئيس الأوحد! ثم إنه عدو طائفته نفسها إذا ما رأت فيه غير ما يرى في نفسه!
بمعنى آخر فإن ميشال عون قدم نفسه، وعبر الاعتداء المشين على مقام البطريرك الماروني وبكركي، بوصفه “بطل” حرب التقسيم مسقطاً شعاراته التمويهية التي هيج بها “الشارع” الذي رباه أبطال الحرب الأهلية (الراحلون منهم والأحياد بعد)، ثم أعادت الحرب نفسها إنتاجهم عبر امتدادها ولضرورات إدامتها فبرز من بينهم من أجاد فأبدع جنرال الحرب إياه!
فوحده “بطل” الحرب الأهلية، وشعارها الفعلي التقسيم، والابن الشرعي لمؤسسه العمى بالتعصب الطائفي والانغلاق، ومختلس السلطة ومنتحل صفة الشرعية، يمكنه أن يتصدى بالإهانة والاعتداء الجبان على شيخ جليل كالبطريرك نصر الله بطرس صفير.
… خصوصاً وإن محبي هذا المرجع الحكيم كانوا يأخذون عليه تهاونه وتساهله في مواجهة التيارات المتطرفة والرعونة، وتجنبه المواجهة مع الطغيان الذي بدأ صغيراً في ذلك الليل الكتائبي البهيم، آخر عهد أمين الجميل، ثم تفاقم خطره حتى هدد وجود لبنان كله واللبنانيين جميعاً.
لقد فعلها “العسكري”. اختار أفضل وسيلة للدفاع فهاجم العهد الوليد، وضربه في الخاصرة الضعيفة، الطائفة ومرجعها، فارضاً عليه الاقتتال الماروني أو التراجع أمامه إلى حد إلغاء ذاته ومعه مصادر شرعيته المحلية (المجلس النيابي) والعربية (قمة الدار البيضاء وقرارها ووثيقة الطائف) والدولية متمثلة بالاعترافات السريعة التي جاءته من مشارق الأرض ومغاربها.
وهكذا فرض على العهد الجديد أن يبدأ بساعة حزن تجلى فيها وعبر تهجير البطريرك الماروني فداحة المخاطر التي تتهدد هذا العهد وتستدعي منه توفير العلاج الحاسم والحازم بأسرع مما قدر وتصور.
وكثيرة هي الدلالات التي تكشفها واقعة التطاول على مقام البطريركية ، لكن أبرزها جاء إنه متى افتقدت وحدة البلاد تعذرت حماية وحدة الطائفة ذاتها، وإن المتجرئ على الأولى لن يردعه رادع عن ارتكاب الثانية.. فليست الطائفة حتى عند المتعصب، أو لاسيما عند المتعصب بأعز من الكيان والنظام والدولة والحكم والشرعية ومؤسساتها وصولاً إلى التراب الوطني.
والانقسام متى سحب نفسه على الكل لن يحترم ولن يتهيب وحدة كل جزء على حدة، بل هو سيستمر في تشطيرها جميعاً حتى تتشظى وتتناثر مزقاً متناحرة.
والانتصار على الحرب الأهلية يبدأ بإشهار هزيمة الطوائف جميعاً، بحيث لا تستطيع طائفة أن تدعي إنها غلبت غيرها من الطوائف، وأن يقر الكل بأنهم مهزومون وأن يتحلوا بآداب المهزومين وبميلهم الطبيعي إلى التسامح (بل التنازل) من أجل المصالحة الوطنية الشاملة.
في اليوم الأول للعهد الجديد، وبعد التخفف من صدمة ليلة الجنرال في بكركي، ظل الاستبشار هو السيد، وكانت طرابلس في ثياب العاصمة الثانية (والأولى بالوكالة) ربما لأول مرة في تاريخها، وكانت زغرتا تحس برضا عن نفسها إذ أثبت قادتها حرصهم عليها، وكانت إهدن فرحة من دون استفزاز وكانت دار هجرة البطريرك في الديمان ترتج بأهازيج الآتين ليؤكدوا أن بكركي عوقبت لأنها ارتقت إلى مرتبة المرجعية الوطنية، وإن البطريرك نصر الله بطرس صفير قد تعرض للاعتداء لأنه عبر عن وعي الطائفة العظمى بضرورة الوحدة الوطنية والتسليم بحق شركائها في الوطن بالحقوق الطبيعية للإنسان.
وكان الرئيس الهادئ رينيه أنيس معوض ما زال على هدوئه يطوف بين زغرتا وإهدن والديمان، بين النواب والمبتهجين والمهنئين، يسأل ويسمع ويناقش ليسمع أكثر وأصرح مما يعينه في رحلته الشاقة أداء للمهمة المستحيلة التي لا يتصدى لتبعاتها إلا من له في نفسه ثقة راسخة تكاد تصنفه بين الفدائيين أو هواة المغامرات.
حوصر الجو الاحتفالي في أضيق نطاق ممكن، وأوقف إطلاق الرصاص ابتهاجاً، وحددت إقامة المزغردات والمغنيات وضاربي الطبل عند مدخل المقر الصيفي المرسومة طريقك غليه بالاعلام وانصرف “الرئيس” إلى ترتيب أولويات حركته وقراراته المنتظرة.
السؤال الأول: من هو رئيس حكومة المقبل؟! من هو الشريك الثالث (إذا افترضنا إن الشريك الثاني هو رئيس المجلس الذي أعيد انتخابه لولاية خامسة)؟!
لنفرض إنها من ستة وعشرين وزيراً، لنفرض إن فيها مقعدين لوزيري دولة، لنفرض إن برنامجها العام محدد في إطار وثيقة الطائف والمهمات الطبيعية، وكلها جسام… طيب، من هو رئيسها القادر في هذه اللحظة الدقيقة جداً، أن يقوم بالعبء الثقيل؟!
من هو الذي يمكنه أن يضيف إلى رصيد الرئيس معوض فلا نخصم منه ما يمكنه من الاقلاع ومواجهة المشكلات في عقر دارها؟!
من هو رجل الدولة، الذي أثبت حرصه عليها حتى يوم تناهبها المتحكمون وأباحوا مؤسساتها للميليشيات ومشتقاتها ومستولداتها والمنتفعين بوجودها، تارة باسم حقوق الطائفة وطوراً بذريعة التسامح مع الطوائف الأخرى؟!
من هو الي ظلت خريطة الوطن كاملة في وجدانه لم يمزقها بالغرض ليستأثر بحصته منها ولو ذهبت الأجزاء الباقية إلى الضياع والاندثار؟!
وما هو المنطق الذي يجب أن يحكم اختيار الشريك الثالث وتكوين الحكومة ككل؟!
لا بد من استيعاب الجميع لا بد من أن تفتح ذراعيك بروح المصالحة الوطنية للجميع لا بد من تعليق الاتهامات والتصنيفات والمحاسبة ذلك زمن لم يأت ، الوفاق، التوافق ومن ثم الاتفاق.
أمراء الحرب وزراء الفعاليات والأقطار وزراء . قادة الميليشيات وزراء . والبعض يضيف: حتى ميشال عون يجب أن يجد له مكاناً إن هو رغب في الانضواء تحت لواء المصالحة الوطنية.
ويتفجر السؤال المكبوت مدوياً: وماذا عن الآخرين؟!
ابحجة استمالة التقسيمي واستعادته إلى الحظيرة يعاقب الوحدوي كمرة أخرى؟!
ابحجة تدجين الميليشيات الطائفية لاحتوائها في إطار الدولة يطارد ويطرد من نعيمها أولئك الوطنيون الذين أبوا الانزلاق إلى درك التعصب الطائفي أو الاتجار بحقوق الطوائف أو ركوب موجتها للوصول إلى … التسلط وفرض أنفسهم قيمين على البشر وشركاء لهم في أرزاقهم ومتحكمين في شروط حياتهم، بل وفي حياتهم ذاتها؟!
هل بحجة الامتناع عن تحدي جنرال الحرب نبعد ونتجنب السلام على المؤهلين لبناء السلام؟!
وهل كان البطريرك في بكركي يتحدى الجنرال حتى طرده من بيته، فارضاً عليه أن ينضم إلى قافلة الوحدويين المهجرين من القوى السياسية بمن فيهم “نواب الأمة” الذين قاتلوا في الطائف قتالاً مجيداً من أجل الجنرال وسعياً لحفظ كرامة الجنرال وتأمين مستقبل الجنرال وحقه في المشاركة في بناء العهد الجديد؟!
لكأنما “طويت” المنطقة الشرقية وحصر حق التملك والسكن فيها “بالعونيين” من الموارنة فقط لا غير، لكأنها “العونية” وكان الله في عون من يعترض على أو يعارض أو يتحفظ أو لا يقبل صورة عون ولا يضعها على رأسه!
الرئيس الهادئ ما زال هادئاً، يضبط انفعاله وتأثره، ويزن بزيان الصيدلي كلماته القليلة والمختارة بعناية فائقة، ويفكر ويتأمل ويسأل ويسمع فيسأل ليسمع أكثر،
لقد فرض عليه الجنرال حرب التقسيم، فكيف يكون الرد؟!
ماذا عن الجيش؟! وكيف يمكن استعادته إلى حضن الشرعية ودوره في حمايتها وتوطيدها؟!
ماذا عن “القوات” وسائر أطراف “الجبهة اللبنانية”!
ماذا يدبرون في تلك الاجتماعات المطولة في القصر المغتصب في بعبدا؟!
وحتام تستمر حالة التهييج والتظاهرات المبرمجة ، التي تطورت إلى حالات دهم واعتداءات مباشرة طاولة أعلى مرجع روحي ماروني في لبنان؟!
وكيف السبيل إلى المواجهة من دون أن يكون ذلك انسياقاً إلى خطة مدبرة لإدامة الحرب الأهلية (داخل الطائفة هذه المرة) ووأد العهد الجديد؟!
هل صحيح إن الجنرال مصر على توسيع حكومته وجعلها “حكومة لبنان الحر”، وإنه ينتظر موافقة سمير جعجع، لإعلانها، وإنه إذا استمر جعجع على تردده سيعلنها وفيها قائد “القوات” ليحرجه فيخرجه أو يجره إلى صدام قبل أوانه؟!
واين تقف سوريا، أو بماذا يمكن مطالبة سوريا في مثل هذه الحالة؟
ثم أين تقف اللجنة العربية العليا، ومن ورائها الدول، وبماذا يمكن أن تطالب؟!
كل من كان في القليعات أو في طرابلس وزغرتا وإهدن، امتدح التصرف العاقل والرزين للقوات السورية المتواجدة في المنطقة، لقد انضبت قياداتها وعناصرها بتوجيه مباشر حازم، حتى بدأ الجنود السوريون على الطريق وكأنهم عابرو سبيل جعلتهم المصادفة وحدها قريبين من مركز الحدث.
لم يسجل تدخل ولم يستطع المغالون في مخاصمة سوريا تسجيل غلطة واحدة في المسلك، وعندما دخل العميد غازي كنعان، ليل أمس الأول، إلى قاعدة الطعام في مركز “بالما” السياحي، وبينما الحشد النيابي يتناول العشاء، تغامز البعض إن : أرأيتم؟! إنهم هنا، يحركون ويرتبون كل شيء… لكن هؤلاء سرعان ما بدلوا موقفهم، وأظهروا الاعجاب بلياقة الرجل الذي كان مسؤولاً أمنياً عن سلامة مكان اجتماعهم، وسلامتهم الشخصية، حين رأوه قد جاء فقط للسلام والتحية والاطمئنان إلى أن كل شيء على ما يرام، ثم انصرف قبل أن يستطيع بعضهم الوصول إليه لمصافحته وشكره.
سوريا موجودة، متعاونة ومستعدة لكل ما يمكن أن تطلبه الشرعية ورئيسها المنتخب.
لكن هم الخطوة الأولى بحت لبناني، تتخذها ثم تطلب المساعة، وليس قبل ذلك.
واللجنة العربية حاضرة عبر ممثلها الرزين والكارز بالتسامح والمحرض على المصالحة وإسقاط التحفظات جميعاً حرصاً على لبنان وحقه في الافادة من الفرصة الذهبية المتاحة لإنقاذ ذاته، دولته ومؤسساتها، أرضه وشعبه، كل شعبه وكل أرضه.
ولقد أعلنها الأخضر الإبراهيمي وكررها مراراً وأمام الجميع: نحن مستعدون لتقديم كل ما تطلبون، وربما فوق ما تطلبون، ونحن تحت تصرف الشرعية وفي خدمة نجاحها لأنه نجاح لنا، ولكن المهم أن تفرغوا من استكمال المؤسسات الدستورية بتشكيل الحكومة ليمكننا أن نقدم ما نريد تقديمه.
والدول قدمت اعترافها كعنوان لدعمها المفتوح، ولسوف تنتظر أيضاً إنجاز ما لا بد من إنجازه، ليمكن قبول الدعم العتيد.
إذن فالقرار لأصحاب الشأن، وعلى أساسه وانطلاقاً منه تأتي المساعدة بأشكالها كافة وبمستوياتها المختلفة.
وفي انتظار الخطوة الأولى والقرارات المعلنة تقدم الرئيس ومعه الحكومة والمجلس، أي الشرعية مجتمعة، لتسلم الحكم والدولة، يواصل الجنرال حربه ضد الجميع في الداخل والخارج.
والحرب لا تنهيها المواعظ، ولا توقفها النوايا الحسنة.
ولا بأس من شيء من الصبر في انتظار أولى القرارات الصعبة في هذا الزمن الصعب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان