بين جدة في السعودية وبيت مري في قلب جبل لبنان مسافة كافية لاستعادة الوعي بالحدود بين ما هو فوق، وما هو تحت، ما هو مقبول وما هو مرفوض وبالأخص: ما هو مرفوض.
وبالتأكيد فما قاله وزراء خارجية “دول الطوق” في بيت مري كان مستحيلاً قوله في جدة، لأن من في عاصمة “المملكة” يفضلون الصمت إجمالاً، فإذا كان لا بد من الكلام فبالإيحاء أو بالهمس الحميم، وليس بالبيانات المكتوبة أو بالتصريحات المرتجلة أو بالخطب المرسلة، حتى لو كانت دفاعية وتبريرية كمثل مرافعة صائب عريقات: المحامي الناجح عن مسألة خاسرة في منطقة محقةز
لا مجال للأوهام، بعد،
فالإسرائيلي يعرف ويعلن أنه إنما يفاوض الأميركي في العرابي،
والعربي لا يماري ولا يخادع وإنما يقولها صريحة: إنه إنما يفاوض الأميركي في الإسرائيلي وخارجه،
لكن الأميركي في العربي أكبر حجماً وأقوى تأثيراً من الأميركي في الإسرائيلي،
أو أن الإسرائيلي في الأميركي كبير إلى حد خطير، في حين أن العربي في الأميركي ليس عظيم التأثير، أو أن تأثيره ليس حاسماً.
المسألة الآن تحديد من هو الأميركي،
فمع رحيل جورج بوش، الداعي والراعي والضامن لـ “مؤتمر السلام” وقدوم بيل كلينتون، طرح أشكال جديد جوابه عند الإسرائيلي جاهز أما عند العربي فهو ما زال “تحت النظر” و”قيد البحث”.
لقد اندفع بعض العرب مع أوهام الرغبة في التخلص من أعباء المواجهة مع الإسرائيلي – ولو بالمفاوضات – إلى حد تجيير القضية كلها للصديق الأميركي الذي سرعان ما تحول إلى “محرر”: جورج بوش،
أما الإسرائيلي الذي خاض له جورج بوش معركته الانتخابية داخل الكيان الصهيوني وأمن الفوز فيها “لرجله” إسحق رابين، فإنه لا يحس بوطأة الدين (أو الجميل، كما عند العربي)، ولا يرى نفسه ملزماً بأن يرد تحية جورج بوش بأحسن منها، بل هو يحاول الإفادة من مجيء بيل كلينتون لتحسين شروطه في المفاوضات التي ترعاها واشنطن وتريدها أن تنجح.
وبين الأطراف العرب من سلم أوراقه جميعاً أو أحرقها على هيكل جورج بوش،
لكن الإسرائيلي، الحذر بطبعه، والشكاك، والطماع، والدقيق في قراءته لخريطة التحولات السياسية، فإنه تصرف باعتباره “صديقاً للولايات المتحدة الأميركية” وليس لرئيس فيها بالذات، فإن كان الرئيس جورج بوش فهو معه باعتباره الرئيس الأميركي وإن كان بيل كلينتون فلا مشكلة بل ذلك ادعى للغبطة لأن “التجديد” يعطيه فرصة إضافية لتحسين شروطه الممتازة أصلاً.
العرب يخسرون مع الخاسر جورج بوش، ويحاولون عبثاً تعويض الخسارة بتقديم تنازلات إضافية للرئيس الجديد،
والإسرائيليون يربحون مع الرابح بيل كلينتون، ويجتهدون لاستثمار الخسارة العربية الإضافية بتصويرها وكأنها تنازل منهم للرئيس الأميركي الجديد،
فلولا صمود إسرائيل لكان على كلينتون أن يبدأ من مستوى أدنى بكثير،
في أي حال فإن لقاء بيت مري قد حاول فنجح في استنقاذ ما يمكن بعد إنقاذه:
-فهو قد أعاد تظهير الموقف اللبناني باعتباره موضع إجماع عربي، بقدر ما هو موقف معبر عن استقلال الإرادة اللبنانية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
-وهو قد أعطى هامشاً واسعاً لاستعادة التماسك في الموقف الفلسطيني، بعد سلسلة التنازلات المجانية التي كانت قدمت بحجة “الوفاء للصديق جورج بوش”، كما بعد الهزة التي أحدثها القبول الأردني المرتجل بما سمي “جدول الأعمال” والذي كاد يصير أشنع من صلح منفرد لولا الاستدراك الملكي… ومبعثه الذكاء أكثر من الوطنية!
-وهو قد استقدم مصر بدلاً من الذهاب إليهأ، فجاء الأقل إلى الأكثر بدلاً من أن يتضاءل الأكثر ليغدو مقبولاً في الحجم المتصاغر تحت كمب ديفيد بدرجات.
وإذا كان الفضل في لقاء بيت مري للسوري فذاك أمر طبيعي لأن المسؤولية تظل للقائد، وهو المطالب بأن يصحح الخلل، إذا ما وقع، وأن يستدرك ما غفل عنه المتعجلون أو المتوهمون بأن الصداقة الشخصية قد تلغي أو تعدل في مصالح الدول.
وجولة “البستان” كانت ضرورية كتمهيد للجولة الثامنة في واشنطن، حتى ولو كانت مجرد محطة فرعية على طريق الجولات الألف القادمات.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان