بين غزة الفلسطينية والمفاوضات الثنائية بالشروط الإسرائيلية تحت الرعاية الأميركية في واشنطن بحر من الدم يصعب استخدامه حبراً للتوقيع على إلغاء الذات.
كل حبة رمل على ذلك الساحل الفلسطيني مضمخة بالنجيع مختلطاً بشذا زهر الليمون، وريح البحر تسافر بعطره إلى كل أرض، تجعله راية للمستضعفين في الأرض، للمعذبين في الأرض، للمقهورين في الأرض، للذين لا سبيل لهم لتأكيد حياتهم إلا بإعلان موتهم.
تموت إذن فأنت موجود، وتعيش فتعبر ميتاً وتشطب بلادك من ذاكرة الكون.
يسقط خالد محمد العسكري في مخيم جباليا بظاهر غزة، فيتأكد حضور حيدر عبد الشافي على طاولة المفاوضات مع الإسرائيلي كـ “فلسطيني” لم يندثر “نوعه” ولم ينقرض ولم يصبح مجرد سطر أسود على صفحة صفراء في تاريخ منسي.
غزة ممنوعة من التجول، لكن دمها يتجول بفلسطين كاللهب المقدس فمع نسيم الصباح، يخترق الحواجز والعقول المغلقة، يقتحم قلاع المصالح المحصنة، ويفرض نفسه على جدول أعمال “أصحاب القرار”.
غزة ممنوعة من التجول… ولو استطاع المحتل لفصلها عن أرض فلسطين وتركها تذهب، مع الموج الشتوي الصاخب إلى أقصى نقطة في الكون.
ولأن غزة مسوره بدمها فالمحتل هو الممنوع من التجول فيها ومن حولها، رصاصة فقط ينفذ إليها أحياناً فتطعمه من لحمها مستنقذة هويتها وحريتها.
… ويتدفق العائد حديثاً من مهمة له في الأرض المحتلة، على هامش المفاوضات المتعددة الأطراف فيقول: حررت غزة نفسها من زمان. لا وجود للاحتلال فيها. إنه يحاصرها بالنار والحديد، والبطالة والجوع. البحر من أمامها والعدو من ورائها وقد صار موسى بن نصير وعقبة بن نافع وطارق بن زياد مجرد أسماء للمدارس أو للساحات أو للشوارع التي تنبت حجارتها أملاً أخضر.
“… لا يجرؤ الجند الإسرائيليون على دخول غزه أو مخيماتها، وكذلك الحال في سائر المدن الفلسطينية في الضفة الغربية. إنهم يكمنون في الخارج كالقتلة، ويدسون في الداخل مخبريهم والجواسيس بتكليف محدد: أن يحولوا الانتفاضة إلى فتنة، وأن يحرفوا جهد المجاهدين بحيث يقتتلون.
“.. وغزه صامدة، برغ مجوعها وبؤسها، برغم انعدام المساعدات من الأهل والعون من الأصدقاء. صامدة برغم أن سلطة الاحتلال تعذبها فتمنع عنها الخدمات، أبسط الخدمات. وهكذا فإن مياه المجاري تتحول إلى برك وبحيرات مكشوفة تستولد مياهها الاسنة الجراثيم والأمراض الفتاكة.
“… وبين ما عرفناه أن سلطة الاحتلال تمنع المياه عن الأهالي، إذ تخيرهم بين مياه الشرب ومياه الري، فإن شربوا أصاب اليباس “بياراتهم” أو بساتين الليمون، وإن سقوها قضوا هم عطشا.
“… وفي غزه، كما في سائرأنحاء فلسطين المحتلة، يخضع الاحتلال “السكان” إلى أربعة قوانين في آن: القانون العثماني، قوانين الانتداب البريطاني، القوانين التي كانت سائدة مرعية الإجراء في مصر (بالنسبة لغزه)، وفي الأردن (بالنسبة للضفة الغربية)، ثم القوانين الإسرائيلية، إنه يستخدم منها ما يناسبه، في لحظة معينة، وهكذا فلا بد أن يوفق إلى اصطياد الفلسطيني.. وبالقانون!.
“… إن السيارات ذات اللوحات الإسرائيلية لا تستطيع أن تدخل القطاع أو تتجول فيه. ثمة محطة وقود في ظاهر “القطاع” تتوقف عندها السيارات “الإسرائيلية”، فيترجل ركابها (بمن في ذلك الوفود الرسمية، كما كنا نحن) ليركبوا سيارات أخرى بلوحات فلسطينية تقلهم إلى حيث يقصدون.
“… إن إسرائيل لا تريد غزه، لو قبلت مصر أن تأخذها لشكرتها إسرائيل أعمق الشكر. إنها عبوة ناسفة لنظام الأمن الإسرائيلي. إنها شهادة حية على عجز جيش الدفاع الإسرائيلي وإفلاس القيادة السياسية الإسرائيلية في مواجهة الدم الفلسطيني”.
تنبت الأرض الفلسطينية رياحينها في كل الفصول، على مدار الساعة تتفتح الورود ندية، وتضخ الدم عفياً نقياً في شرايين الفتية الذين يمنحون الحياة شرفها والذين يشرفون الأرض بانتمائها إلى دمهم.
والأرض ولادة، والشهيد يزاحم بدمه أخاه لتوليد هويته وهويتها. فهي هو، وهو هي ولا انفصال ولو اجتمع “جيش الدفاع الإسرائيلي”، كله لقطع الأوردة والشرايين.
… وتسمع غزه عن جيوش جاءت من كل فج عميق “لتحرير الكويت”، وتتوهم أن عصراً آخر قد انبلج فجره، وإن دورها آت لا محالة… فلا ينوبها من “عاصفة الصحراء”، إلا طرد آلاف من أبنائها كانوا يعملون هناك فيعيلون بعض أهلهم فيها. وهكذا يرتد عليها “التحرير” مزيداً من الآلام والخيبة وارتجاج معاني الأخوة.
ثم تسمع غزه عن جيوش تحشد مرة أخرى “لتحرير الصومال” من الجوع والحرب الأهلية، وترى في “الحرب” التلفزيونية الجديدة أعلاماً خضراء مشرفة بالشهادتين تخفق فوق رأس الجنود الأميركيين، فتتجرع حسرتها مضاعفة: لقد أضاعوا عنوانها، ولو إنهم يذكرونها بعد لكانوا وجهوا بعض هذا الجهد لتحريرها من الاحتلال والانسحاق والجوع.
لكن غزه، مثل سائر فلسطين تعزي نفسها بنفسها: إنهم أعظم جوعاً منها. جوعها إلى الخبز وجوعهم إلى الكرامة.
والدم حصن الكرامة وسيفها الباتر،
هي بدمها “تشتري” حريتها وحقوق أهلها فيها، “وهم” يسفحون “دماءهم” وأموالهم وسيادتهم وحريتهم من أجل تأمين مصالح الآخرين… أسيادهم الجدد، سدنة النظام العالمي الجديد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان