من حق إسرائيل شيمون بيريز على تركيا طانسو تشيلر أن تعترف لها بالفضل: لقد حلت لها مشلكة فكرية – سياسية – اقتصادية ومسألة عملية غاية في التعقيد كانت تصدع باستمرار علاقتها بجيرانها العرب، خاصة، وتريك خطابها السياسي في الداخل والخارج ، بصورة عامة.
لقد اخترع بيريز “الشرق الأوسط الجديد” لكي يحل مشكلة انتماء إسرائيل، الجسم الغريب، إلى المنطقة، فحل أيضاً بعض مشكلة تركيا المهجنة والمبدّلة عقلها ولسانها، مع هذه المنطقة التي غدت الآن – وباسمها الجديد – مشاعاً مفتوحاً لكل الأغراب والمهجنين والهاربين من هوياتهم الأصلية.
وطالما تعذرإخراج العرب من كامل أرضيهم فلا أقل من إخراج المنطقة من هويتهم وتاريخهم ولسانهم ودينهم (يستوي في ذلك الإسلام والنصرانية)، ليمكن أن يقرر مستقبلها من خارجها وخارجهم.
الطريف أن ذلك كله يجري بموافقة حماسية من طرف معظم ملوك العرب والسلاطين والأمراء و”القادة التاريخيين” ، ولا فضل لإسرائيلي أو تركي على العربي إلا بالسبق في تحديد هوية المخلوق المهجن الجديد!
المهم أن تركيا كانت تعاني من مجموعة عقد في علاقتها بمحكوميها أو رعاياها السابقين من العرب، ومع بيئتها الإسلامية: فهي قد حكمتهم قروناً باسم دينهم الذي جاءها بالهداية ثم بشرعية الحكم، وكان قلبها ولعله ما زال من المنطقة، وفيها، لكن العقل الذي “زرع” في رأسها بجراحة قاسية ومعه لسانها الحديث، مطلع القرن، هو عقل “غربي” لا يأتلف كثيراً مع عاطفيتها ومع الشجن التاريخي الذي ظل يميز تلك الشعوب من الرعاة والجنود حتى وسلطنتهم تسيطر على العالم.
كانت تريد نفسها دائماً فوق العرب، لكنها تجد نفسها دائماً تحت الغرب، تنافقه في الثوب والحرف وطراز البناء وسلم القيم الاجتماعية، وتتقدم إليه بطلب الانتساب تلو الطلب فيرفضها بقسوة، وإن رضي بأن يجعلها حارساً بالأجر لحدوده مع الشيوعية (سابقاً)، وبأن يعاملها كاختراق غربي للإسلام والمسلمين (ومن ضمنهم العرب).
ولكنها مع ذلك تظل تستعلي على العرب والمسلمين وكأنها، بعد، مركز الخلافة والباب العالي وخاقان البر والبحر.
الآن، وفي “الشرق الأوسط” الجديد يمكن لتركيا أن تكون الشريك الضروري للوافد الغريب والمهجن الآخر: إسرائيل . وطالما أن الهوية العربية للمنطقة قد غيبت تماماً فيمكن للحلف التركي – الإسرائيلي أن يقوم علناً على أنقاض العرب (والمسلمين) والإسلام ذاته.
وإسرائيل تسدد بهذا “الاكتشاف” دينا تركيا قديماً عليها: ألم تكن أنقره (وبعدها طهران الشاه) بوابة إسرائيل لكسر الطوق العربي بالمسلمين المهجنين من غير العرب؟!
في إسرائيل كانت التركية طانسو تشيلر “غربية” تماماً،
لكنها في “القدس الشرقية – العربية – المحتلة” عادت “مسلمة” وبموافقة الإسرائيليين وبحراستهم (مع تغييب لرئيس البلدية الليكودي بذريعة أن الزيارة تمت يوم السبت).
في غزة التي جاءتها عن طريق الاحتلال الإسرائيلي، وبطلب منه، تصرفت تشيلر كهيئة إغاثة دولية (الصليب الأحمر، مثلاً) فتصدقت على الفقراء البائسين بمبلغ من المال، ثم نصحتهم بنبذ العنف ورعاية الأطفال والإكثار من الحدائق العامة.
لم تعد إلى السياسة إلا في مصر وعبر بند وحيد شكل هدف الرحلة والجامع المشترك بينها وبين مضيفيها جميعاً: الكفاح ضد الإرهاب.
وللكفاح ضد الإرهاب في إسرائيل معنى محدد: حماية “السلام” وأحلام الرخاء والازدهار والتقدم في شرق أوسط عصري جديد،
أما الكفاح ضد الإرهاب فيمصر فله معنى آخر: إبراز قيم الإسلام الحقيقية!
ولربما كانت تركيا طانسو تشيلر آخر من يصلح للكلام عن “قيم الإسلام الحقيقية”، وإن كان مفهوماً إلحاحها الشديد على ضرورة “مكافحة الإرهاب”،
لكأنما الأكراد المضطهدون في تركيا تشيلرالمقتولون على مدار الساعة، هم الذين يشوهون قيم الإسلام الحقيقية، تماماً مثلهم مثل المجاهدين ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، سواء انتموا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أم لتنظيم “الجهاد الإسلامي” أم لتنظيمات أخرى لا تحمل لافتات إسلامية، أم للأرض الفلسطينية ذاتها ولحلم التحرير من غير أي وسيط تنظيمي.
ما هو الجامع المشترك بين طانسو تشيلر واسحق رابين وحسني مبارك والتابع ياسرعرفات؟
من الصعب تصديق تعاون هذا الرباعي على “حماية القيم الإسلامية”،
أما “مقاومة الإرهاب”، وتحديداً “الإرهاب الإسلامي”، فيمكن أن يوحد بينهم فيحلف غيرمقدس ضد كل ما هو مقدس في الوجدان السياسي لهذه الأمة، وبالذات “حماية قيم الإسلام” وأبرزها حفظ الأرض ومنعها من أعداء الأمة!
إنه حلف “إسلام الحاكمين” مع القوة الغريبة المهيمنة، ضد إسلام المحكومين!
إنه حلف “الإرهاب الجديد”: إرهاب السلام الإسرائيلي!
فوفقاً لمقتضيات النظام العالمي الجديد وتطبيقاتها الإسرائيلية في المنطقة العربية قسم الناس إلى قسمين: من هم مع السلام، ومن هم مع الإرهاب!
لا مساحة رمادية، وعليك أن تختار وتعلن خيارك: هل أنت مع السلام (وخارج الإسلام)، أم أنت “مسلم” وبالتالي فأنت إرهابي؟!
إنع “سلام” لا يقبل المعارضة أو الاعتراض أو حتى النقاش، فكيف بأن يقاومه أي “مجنون” بالسلام؟!
إنه “إسلام ديموقراطي” تماماً بحيث إنه عرض لا يمكنك أن ترفضه!
إذا اعترضت فأنت تواجه العالمكله: شرقاً وغرباً، وفي الطليعة منه “أولي الأمر” من الخلفاء والملوك الأشراف والسلاطين والأمراء والقادة التاريخيين.
إنه سلام كالقدر: لا تملك له رداً، وعليك أن تسلم به وكأنه قضاء الله، فهو خارج دائرة النقاش والاختيار.
وطبيعي أن يكون الرافض أو المعترض عدواً للإسلام وخارجاً على الإرادة الإلهية، وبالتالي فهو كافر أشر، ومن نافلة القول إنه “إرهابي” خطير، يستعدي العالم كله ويتحداه، ولا بد من قتله حماية للنظام العام.
أين الإرهاب؟!
أهو “داخل” هذا السلام أم خارجه؟!
وهل بقي خاربج هذا السلام أي أحد أو أي شيء له علاقة بالإرهاب؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان