التواطؤ، كالزواج، يحتاج إلى طرفين،
اليوم، وبعد سنتين من المغامرة الحمقاء لصدام حسين في الكويت، يبدو التواطؤ جلياً وصريحاً بل وفاقعاً بين حاكم بغداد وبين الإدارة الأميركية وبعض حكام الجزيرة والخليج، لاسيما منهم حكام الكويت.
لقد تواطأ الكل على تدمير العراق ومصادرة الثروة الهائلة المختزنة في أرض الجزيرة والخليج.. ولأنهم شركاء فلم يسقط منهم أحد، ودفعت الأمة العربية وحدها الثمن مرتين: ثمن الحرب (وهزيمتها فيها) وثمن بقاء هؤلاء المتواطئين جميعاً.
على إن صدام حسين قد نجح في “تحرير” العراق من العراقيين، فشرد الأكراد مع وهم “الاستقلال الذاتي” – أي الانفصال – وبدأوا يبنون على الرمل كياناً لن يصمد لحقائق التاريخ والجغرافيا، وتم سحق الانتفاضات الشعبية المتوالية في سائر أنحاء العراق، والجنوب منه على وجه التحديد،
وبالمقابل فقد نجح حكام الكويت في “تحريرها” من العرب (غير الكويتيين)، وفي ضرب تطلعات الكويتيين إلى نظام ديمقراطي وعادل وأكثر انسجاماً مع الأهداف القومية للأمة بحيث يبرر وجود الكيانات المصطنعة ويغطي تشوهاتها واستئثارها بثروات تبني قوى عظمى لو أنفقت أو وظفت على الوجه الصحيح.
ونجح الأميركيون في استبقاء حكام المنطقة جميعاً، العراقي والسعودي والكويتي، مع كشف عيوبهم وفضائحهم وابتذالهمن بما يصيب المواطن بإحباط مطلق: حتى الحرب التي دمرت الأمة عجزت عن إسقاط هؤلاء الذين اغتالوا مستقبلها بقصر نظرهم وجشعهم ودمويتهم وهوسهم بالسلطة واستسلامهم للأجنبي واحتمائهم به من غضبة شعبهم ومن طموحه المشروع إلى غد أفضل.
ومنذ انتهاء الحرب وحتى اليوم، تتكرر اللعبة فجة ومفضوحة: يكتب عدي صدام حسين، مجدداً المطالبة باستعادة الفرع الكويتي إلى الأصل العراقي… (وعدي للمناسبة هو حاجم آخر اكتشف في نفسه مثل ما في الأمراء السعوديين من عبقرية ومن موهبة في الكتابة والإقناع وتطوير الصحافة والفكر عموماً)، فتهتاج الأسرة الكويتية الحاكمة تستغيث طالبة النجدة، وتستصرخ السعوديين، فتهب واشنطن لنجدتها (وتأمينهم) بإرسال المزيد من العسكر الأميركاني (باب أول) إلى آبار النفط لتحميها ومعها أبناء الدم الأزرق من حكام الصحراء الذهبية.
فإذا مروقت طويل ولم يتحرش حاكم بغداد بالكويت، بادر حكام الكويت إلى تذكيره، تارة عن طريق ترسيم الحدود، وطوراً عن طريق إثارة موضوع المنهوبات، ونادراً من خلال التذكير بالمعتقلين والأسرى ممن لا يعرف حتى اليوم مصيرهم (على جانبي الحدود).
الملفت إن التحرشات تتزايد كلما اشتد الضغط على الطرف العربي، من أجل تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل في المفاوضات الثنائية،
ثم إنها بمجموعها قد أعطت فرصة ذهبية لتركيا قد تزيد من ضغطها على جيرانها العرب بسلاح المياه، وهو أفعل من سلاح النفط، فوصلت في بعض الحالات إلى حد الادعاء إن أنهاراً دولية كدجلة والفرات هي أملاك تركية صرف، وإن أنقرة تستطيع لو شاءت أن تقفل الحنفية تاركة عرب الشام والرافدين للموت عطشا!!
وفي ظل استمرار هذا التواطؤ الثلاثي يتزايد التردي العربي العام، ويشل الانقسام أي جهد عربي مشترك ويعطل مؤسسة ضعيفة، كالجامعة العربية عن لعب أي دور،
وهكذا يستشعر الفلسطيني قدراً من العزلة والوحشة والاجتماع على اضطهاده مما يغريه بالتفرد في حل، أي حل، مع عدوه الإسرائيلي،
ويشتد الحصار على سوريا ولبنان، خصوصاً مع تهافت الدور المصري، وتترك ليبيا لمصيرها، ولا تجد الجزائر من يعنى بمحاولة تضميد جراحها الخ…
لكأن “عاصفة الصحراء” ما زالت تضرب العيون والوجوه بالرمال الحارقة فتعمي وتضل الناس الطريق،
و”عاصفة الصحراء” دهر، مثلها مثل 5 حزيران،
فهي قد بدأت قبل بدايتها بزمن طويل، وهي مستمرةبعد “نهايتها” زمناً قد يلتهم المستقبل العربي.
إلا إذا وقع الذي ينتظره الناس مع أن أحداً لا يعرف ماهيته ولا مكانه ولا موعده المرتجى.
هل قتل النفط البراكين في الأرض العربية؟!
قاتل الجمهورية والرئاسة
… يعود لكي يحررهما!!
أخيراً وصل “المنقذ”،
وعلى طريقة أفلام الإثارة والحبكة البوليسية المتقنة: دخل “البطل” من حيث لا يتوقعون. انتظروه من الجو، فجاء من البحر. وجاء وهو يقود يخته الفخم بنفسه. تركه وقاد سيارته بنفسه (!!) واقتحم على البطريرك الماروني خلوته… ثم اقتحم الكنيسة ليصلي، كتمهيد أخير لمباشرة المعركة ضد “الأشرار” معتصماَ بإيمانه العميق!!
وفي بلاد تتراوح أفلام الإثارة والحبكة البوليسية المتقنة: دخل “البطل” من حيث لا يتوقعون. انتظروه من الجو، فجاء من البحر. وجاء وهو يقود يخته الفخم بنفسه. تركه وقاد سيارته بنفسه (!!) واقتحم على البطريرك الماروني خلوته… ثم اقتحم الكنيسة ليصلي، كتمهيد أخير لمباشرة المعركة ضد “الأشرار” معتصماً بإيمانه العميق!!
وفي بلاد تتراوح السياسة فيها بين “الكرنفال” وبين الطرائف الفولكلورية، وإن ظلت إلى المهزلة أقرب (وحتى وإن أبكت الجمهور فأدمت قلبه ومقلتيه)، تصبح عودة أمين الجميل خبراً يتصدر نشرات الأخبار والصحف، ولو لساعات… وبوصفها طرفة إضافية، أو مسخرة جديدة من مهازل “التطور” في الحياة السياسية للبنانيين!
إنه حكم الصغار.
وأمين الجميل صغير بما يكفي ليكون منافساً أو حليفاً، شريكاً أو خصماً، لا فرق.
على إن هذا الرجل الذي خرج من الحكم مشيعاً باللعنات، ووجهت إليه أقسى الاتهامات وأفظعها، وبإجماع عز نظيره يفوق ذلك الإجماع الذي تكالب عليه بالخوف فحمله إلى الرئاسة قبل عشر سنوات، يتصرف بثقة وكأنه قادر على أن يخدع اللبنانيين مرة أخرى.
لقد اتهم بأنه السبب المباشر في مجموعة من الحروب التي توالت في عهده، ثم لاسيما بعد انتهاء عهده الميمون، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من اللبنانيين،
واتهم أنه متآمر على النظام السياسي وعلى سلامة الكيان، واستطراداً، على الوجود المسيحي في لبنان، عندما عطل انتخاب رئيس بديل للجمهورية طمعاً بأن يوفر له الفراغ فرصة التمديد… حتى وهو معزول في قصره، تقاطعه “حكومته”، ويقاطعه المجلس النيابي، ويطلب له “شعبه” الموت انتقاماً مما ابتلاه به من مصائب.
واتهم بأنه مدمر الاقتصاد، وقاتل الليرة اللبنانية، وسارق الخزينة، وحامي اللصوص الكبار الذين “شفطوا” ثروة البلاد من احتياطي العملات والعقارات والشركات الرابحة، ومن موقع شركائه المباشرين أو السماسرة المحترفين،
اليوم، وفي ظل حكم الصغار يتفضل أمين الجميل بتوجيه النصائح والمواعظ والدروس في الوطنية وفي الاقتصاد (!!!)، ويعطي دروساً في الديمقراطية، وهو بطل حروب الضاحية وبيروت والجبل وإسقاط مؤتمر لوزان والوفاق الوطني.
إنه اعتداء صارخ على المواطن، على الحقيقة، على آخر ما تبقى من قيم تعطي للحياة بعض المعنى!
إنهيقاتل بلقبه الفخم، هذا الذي اغتال الرئاسة والجمهورية، ويرشد اللبنانيين حول مستقبلهم هذا العائد من الجريمة والفضيحة ليطرح نفسه “مستقبلاً” لهم، مفترضاً أنهم قد تراجعوا فانحطوا بما يكفي ليقبلوه، مجدداً.
إنه يفترض أن الفقر يلغي الذاكرة، وإن الهموم تسقط التاريخ، وإن الانقسام يعطي الفرصة لتحول القتلة إلى محررين، واللصوص إلى بناة اقتصاد وازدهار.
ولو إن الحكم ليس صغيراً إلى هذا الحد، وليس ضعيفاً وعاجزاً ومرتبكاً ومتورطاً إلى هذا الحد، لكان أمين الجميل قد ظل يعيش حالة خوف من لحظة يطلب فيها لأداء الحساب عما ارتكبته يداه.
وصحيح إن حال “الموارنة” بائس، وإنهم يستشعرون نوعاً من “القهر” والقلق على المصير، لكنهم بالتأكيد لم يبلغوا مثل هذا الدرك ليعيدوا الاعتبار إلى الرجل الذي يمكن اعتباره المسؤول الأول عما أصابهم وأصاب سائر اللبنانيين،
ولعل عودة أمين الجميل تكون نقطة تلاق أولى، ومدخلاً إلى تجديد النقاش الموضوعي حول المسؤولية عما كان، ومن يتحملها، تمهيداً لأن تبدأ محاكمة الرؤساء والوزراء والقيادات والفعاليات الخ… وعلى أساس تلك المحاكمة وإعادة تقييم ما جرى يمكن التلاقي على صورة لبنان المستقبل.
السياسيون والجيش:
سيوف للأطباء؟!
لم يكن الاحتفال بعيد الجيش، السبت، في المدرسة الحربية، طبيعياً في العديد من جوانبه وتفاصيله البروتوكولية ومضامينه السياسية.
ومع التقدير للجهد الذي بذل في التنظيم فلقد كان الخلل “السياسي” أكبر من أن يغطي : فنصف الحكومة كان غائباً، ومقاعد النواب بقيت خالية ولم يزد مجموع الحاضرين منهم على عشرين نائباً… ورئيس الحكومة تأخر أكثر من عشر دقائق،
فدخل رئيس المجلس قبله مما أربك المنظمين
كذلك فقد أبدى بعض الملحقين العسكريين، وبعض الدبلوماسيين الضيوف استغرابهم لتقديم السيوف إلى ضباط أطباء وضباط إداريين، ورأوا في ذلك سابقة… وتحول استغرابهم إلى استهجان عندما عرفوا أن بعض الضباط لم يمض في المدرسة الحربية أكثر من شهرين!
أما العسكريون المحترفون فكانت تعليقاتهم لاذعة أكثر، إذ رأوا في الأمر كله “مهرجاناً انتخابياً”، واعتبروا أن الغرض السياسي هو الغاية وليس استكمال بناء الجيش.
وجميل أن نرى في صفوف القوات المسلحة “ضباطاً” من الجنس اللطيف (32 فتاة يحملن الآن رتبة ملازم)، لكن السؤال يبقى: هل هذا جزء من خطة، أم أنه تدمبير مؤقت واستثنائي له ما يبرره في الواقع كما في السياسة العسكرية.
في أي حال، فقد رأى كثيرون في إقحام تخريج الضباط على الاحتفال بعيد الجيش، اقتحاماً من السياسيين وانتخاباتهم للحرم العسكري.
فالجيش للسياسة بما هي مصلحة الوطن وحماية أرضه ولكنه ليس للسياسيين ولا لمعاركهم ولا لمهرجانات التعويم التي يلجأون إليها كلما اشتد التذمر من “إنجازاتهم” في الاقتصاد كما في الاجتماع كما في مختلف الشؤون الوطنية العامة.
البائعون لحومهم…
يتحدث الإسرائيليون بثقة كاملة عن قرب حصولهم على ضمانات القروض الأميركية بالعشرة مليارات دولار، لتعويض ما تتكبده حكومة الاحتلال لإيواء اليهود المستقدمين من أربع رياح الأرض ليحلوا محل الفلسطينيين في أرضهم.
يقول الإسرائيليون: إن الرئيس الأميركي جورج بوش تعهد بأن “يفرج” عن هذه الضمانات عشية افتتاح الجولة الجديدة من المفاوضات الثنائية مع العرب، والتي حدد لها يوم 24 آب الحالي موعداً، وتقرر أن تمتد لأربعة أسابيع متصلة في واشنطن، وبحيث تبدأ في ظل مسارها المفاوضات الأخرى المتعددة الأطراف، في عواصم أخرى.
إسرائيل تقطف من الرئيس الأميركي (الذاهب؟) أقصى ما كان يمكن أن يعطيه، وتستعد لأن تستقبل الرئيس الجديد (الآتي؟) بفاتورة ثقيلة.
أما العرب فيدفعون الفواتير جميعاً، متبرعين ، ولا يأخذون بالمقابل، غير المزيد من الاذلال والرفض للحد الأدنى من الأدنى من مطالب حكامهم، وليس من حقوقهم.
هذه أول دفعة من “ثمن” سقوط “التطرف” الإسرائيلي.
العرب يشترون “الاعتدال” الإسرائيلي بتقديم المزيد من أرضهم للمستوطنات الجديدة، والمزيد من المليارات يضخونها عبر واشنطن إلى الجهد الحربي الإسرائيلي، فالمستوطنات هي ذروة الحرب.
وإنها لتجارة فريدة في بابها: هذا الذي يبيع لحمه ليحمي قميصه!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان