يتسابق الكبراء من رؤساء ووزراء و”فعاليات”، اليوم على زف البشرى للمواطنين: الحكومة راحلة غداً أو بعد غد، وخلال شهر على أبعد تقدير!
ومع الاتفاق على المبدأ فثمة خلاف على التنفيذ: فالبعض يريد أن تنتهي رمياً بالرصاص، والبعض الآخر يريد اغتيالها، وثمة من يفضل الموت بالسم البطيء، وهناك من يطالب بتشليعها وقتلها بالتقسيط!
فجأة سحبت من التداول كل دواوين الشعر والمعلقات وقصائد التقريظ التي نظمت في مدح حكومة الوفاق الوطني، هذه، حكومة اتفاق الطائف، حكومة الوعد بالحل العربي، حكومة السلام الآتي باسم الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
فجأة اكتشف الجميع العيوب والعورات والهنات الهينات في هذه الحكومة التي ولدت جهيضاً وبعملية قيصرية مشهودة بين “الهيكلية” على مشارف طرابلس (وزغرتا) وبين شتورة بارك أوتيل على مشارف زحلة (ودمشق).
وفجأة ظهرت هذه الحكومة لطيمة الأبوين: الكل ينكرها ولا أحد يعترف ببنوتها وكأنها لقيط وجدها “فاعل خير” على باب الجماع فحملها إلى دست الحكم ونصبها حكومة إنقاذ!
هذا في حين إن الدكتور جورج سعادة وخدينه ميشال ساسين قد اكتشفا قبل أيام فقط ميزات هذه الحكومة الفذة فتراجعا عن الاستقالة وتسابقا إلى استراداد حقائبهما المفقودة والمعارة بالتكليف إلى من تبرع مشكوراً بحملها خلال فترة تغيبهما أو تغييبهما القسري!
وبالمقابل فمع اكتمال “شكل” الحكومة تحرك الفاتيكان فأطلق مبادرته الطيبة بمقايضة اتفاق الطائف بحكومة موسعة يشغل فيها الضابط المتمرد ميشال عون منصب نائب الرئيس ويكون له الحق في تسمية وزير الدفاع إضافة إلى حق النقض أو الفيتو، على طريقة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي…
فالفاتيكان يريد أخيراً أن يجرب حظه في تزويج الذكرللذكرز
وبالتأكيد فإن “مواليد” مثل هذا “الزواج”، لو تم الانجاب، ستكوم من العجب العجاب: الشرعية مع التمرد عليها، والطائف مع الطائفيين، والوفاق الوطني مع التقسيميين، واتحاد النهابين اللبنانيين (وضمنها الميليشيات) مع تجديد الدولة وإعادة بناء الوطن!!
الكل يتحدث عن حكومة جديدة، مع الامتناع عن تحديد المواصفات،
ومع وعي المواطن بالأسباب الموجبة لرحيل هذه “التكية” أو “الشلة” أو “العصبة” التي لم تكن، في أي يوم حكومة، ولا جبهة، ولا ائتلافاً بين مختلفين، ولا قيادة سياسية للبلاد، فإنه هذه اللحظة لم يتبلغ شيئاً عن الحكومة الآتية لإنقاذه… من هذه الحكومة!
هل تبدل الوضع بما يسمح بقيام الحكومة العتيدة التي تستحق أن تحمل مجموعة الألقاب السامية التي خلعت على هذه “الكركوبة” التي ليس لها ناظم ولا يجمع بين أعضائها جامع؟!
هل انتهى “التمرد المسلح”؟!
هل سقط عصر الميليشيات الطائفية؟!
أم إن الحكومة الجديدة ستكون القديمة موسعة بحيث تستوعب ما تبقى من الميليشيات، وقياداتها التاريخية وأبرزها العماد ميشال عون؟!
وإذا كانت القاعدة “لكل ميليشيا نصيب” هي الأساس في السياسة، فإن لميشال عون كل الحق في أن يكون وزيراً ونائباً لرئيس الوزراءأو “أكثر قليلاً من وزير” بحسب التعبير الفرنسي.
فإذا كانت “الحكومة” هي “مجمع” المسؤولين عن الحرب وضحاياها فميشال عون قد أوقع بين اللبنانيين من الضحايا أكثر مما، أوقع أي وزير أو سوبر وزير آخر،
ثم إن ضحاياه، في حربه الثانية، كانوا من الصنف الممتاز.
فهل يستكثر عليه، والحالة هذه، مقعد وزاري وحقيقة من 18 حقيبة؟!
وجميل أن ينتقل المتحكمون في الشارع إلى مقاعد الحكام في السراي، ولكن من يضمن للضحايا أن يستردوا الشارع… بالقمامة والخراب وأسراب الجرذان وأصناف الفيروس القاتل فيه؟!
الميليشيا من أمامكم والحكومة من خلفكم، فإلى أين المفر؟!
… ولننتظرمعاً الصياغة العربية للمبادرة الفاتيكانية المعدلة فرنسياً والمنتظرة بركة واشنطن، بعد استئذان شامير!
واحكمي يا حكومة!
في رثاء مؤسسات الأحلام!
أصدر”الشيخ” رفيق الحريري قراراً بشطب “الحلم” من بين مشروعاته العديدة.
لا مكان في دنيا المال والأعمال والمطامح السياسية لمشاريع خاسرة اقتصادياً من نوع الأحلام والتمنيات والطموح المشروع إلى غد أفضل.
ولقد استقبل اللبنانيون قرار “الشيخ – الوسيط – رجل الأعمال – والمتمول الكبير” رفيق الحريري بإقفال “أوجيه لبنان” وتسريح إدارتها ومهندسيها وموظفيها وعمالها بكثير من الحزن وبمزيد من التحسب لهموم إضافية وجراح جديدة،
ذلك إن اللبنانيين لم ينظروا يوماً إلى “أوجيه لبنان” على إنها شركة مقاولات،
وعبرها فإنهم لم يعاملوا رفيق الحريري باعتباره مقاولاً أو متعهداً أو مجرد منفذ لبعض عمليات البناء أو إعادة البناء،
لقد نجحت “أوجيه” في أن تقدم نفسها كجزء من الوعد بغد أفضل، كبعض الملامح الأسطورية لحلم السلام.
وحين أنجز المهندسون والعمال في “أوجيه” إعادة بناء شارع المعرض، وهو أحد معالم بيروت “الأصلية” كاد الأهالي ينثرون أزرار القرنفل والغاردينيا والفل والياسمين وما تبقى من رز عليهم، وكادوا يرفعون صور الحريري – الذي لا يطلب شيئاً لنفسه ولا يريد منصباً – في الصدارة من بيوتهم.
بل لقد كان الناس يواكبون سيارات “أوجيه” بمسيرات شعبية وهي تتحرك لترفع الأنقاض وآثار الأقدام الهمجية لأطراف الحرب الأهلية،
كان رفيق الحريريتقدم إلى وجدان الناس بوصفه “الباني” و”المجدد” و”رجل الغد”، في حين كان يخرج الأقطاب والزعماء وأبطال الحرب من الذاكرة بوصفهم “الهدامين” وأبناء الأمس الكريه.
ثم اكتملت صورة رفيق الحريري المتميز والممتاز وحامل مفاتيح الغد حين أنشأ مؤسسة تعليم الجيل الجديد من اللبنانيين واستنقاذه من أتون الحرب ومن صهد الغرائز المدمرة والأحقاد القاتلة التي كانت تغرسها ميليشيات الطوائف في النفوس بممارساتها القذرة.
اليوم ومع تهاوي الطود الذي حمل اسم “أوجيه لبنان” تزداد الصورة الجميلة لرفيق الحريري شحوباً، بينما تستبقي الذاكرة صورته الأخرى التي لا يتميز فيها عن غيره إلا بعدد الأصفار في رصيده النقدي وبتعدد ممتلكاته في الداخل والخارج.
لكأنما يسقط من الذاكرة “راجح” بياع الخواتم، الرجل الطيب الذي يحمل للناس الفرح، ولا يبقى فيها غير “راجح” الآخر الذي يسوق باعتباره مصدر الشر ويحمل المسؤولية عن سفالات الحكام والمتحكمين جميعاً.
وتبقى مجموعة من الأسئلة والتساؤلات المقلقة:
-لماذا اليوم؟!
-وماذا عدا مما بدا لكي يتخذ قرار الاقفال بهذه التكلفة العالية؟!
-وما دامت “أوجيه” مستعدة لتدفع تعويضات الصرف بواقع ستين شهراً لكل موظف وعامل فلماذا هذا الاستعجال في القرار؟!
-هل يتوقع الحريري الأسوأ؟!َ
-هل قطع الأمل، نهائياً، من لبنان؟!
-وهل هذا تجسيد وتعبير عن موقف المملكة العربية السعودية، العضو في اللجنة العربية الثلاثية وعراب اتفاق الطائف والمتجول وزير خارجيتها بين عواصم القرار حتى اليوم “يتسول” حلاً للأزمة اللبنانية؟!
قبل “أوجيه” وبهدوء قاتل كان قد تم “اغتيال” مؤسسة الحريري.
وبين أخبار باريس ما يفيد إن مكتب المؤسسة في العاصمة الفرنسية يوزع التعويضات على الموظفين تمهيداً للاغلاق النهائي.
هل انتهى عصر الأحلام في لبنان؟!
إن الناس في وجوم.
والناس في حزن أخرس، ليس فقط لأنهم سيفتقدون مجموعة من الشعراء والحالمين والمتفوقين الذين كانت تحتضنهم “أوجيه لبنان” ومؤسسة الحريري، أبرزهم الفضل علي شلق.
ولكن السبب الأخطر للحزن إن الناس يفتقدون الحالم الأكبر رفيق الحريري، الذي لن يعوضه بأي حال الثري الأكبر أو الملاك الأكبر أو رجل الأعمال والمال الأكبررفيق الحريري.
وبطبيعة الحال فلن يعوضه ولن يعوض الناس في شيء “دولة الرئيس رفيق الحريري”!
عن الكرة أيضاً
*استهلك الناس أعصابهم وبعض عواطفهم خلال مباريات فريق مصر في كأس العالم لكرة القدم، لأنهم وجدوا فيها “المعركة الوحيدة” ذات المعنى،
الطريف إن هؤلاء الناس يخوضون أو يخاض بهم أو تخاض باسمهم مجموعة من الحروب لها أول وليس لها آخر، ولكن لهم فيها جميعاً موقعاً واحداً هو موقع الضحية،
في “معركة” فريق مصر بمباريات كأس العالم، وحدها، وجد الناس لأنفسهم موقع “الطرف” وموقع “المشارك” وموقع “المعني بالربح والخسارة”،
من هنا صارت هذه “المعركة” قضية قومية، في حين أن “الحروب” تلتهم للعرب قضاياهم وكرامتهم ومكانتهم في العالم.
ثم إن العرب، وبأكثريتهم الساحقة، يفتقدون رؤوسهم، أما لأنها معطلة بالخوف من القطع، وإما لأنها محشوة بالأكاذيب والتفاهات نفاقاً للحاكم وسعياً لطول البقاء.
… ولقد أملوا أن تعوضهم الأقدام رؤوسهم المضيعة!
*لا يحقق النصر إلا من يستحقه.
حتى النصر في كرة القدم يحتاج إلى “صحة” وإلى “سلامة” وإلى “نظافة” في السياسة وفي الاقتصاد، في الثقافة وفي الفن، وأساساً في الحكم وفي العلاقة بينه وبين الشعب.
الأقدام وحدها لا تكفي،
… برغم إنها قادرة على إنجاز الكثير في الملعب وخارجه، ولاسيما خارجه!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان