تفرض المقارنة نفسها بين “الماروني” في لبنان و”الكردي” في العراق، من خلال المسلك السياسي الذي اعتمدته قيادات هاتين الأقليتين “العربيتين”، بغض النظر عن الدين والعرق،
فـ “الماروني” في لبنان يصر على تقديم نفسه كاقلية، مفترضاً أن تلك هي الطريق للامتياز – وبالتالي للحكم – بقوة الحماية الأجنبية التي لا بد ستعتمده وكيلاً لمصالحها، وستنصبه فوق سدة الحكم ولو كرهت الأكثرية العاجزة بل المهزومة.
أما “الكردي” في العراق فهو يحاول التخفيف من آثار تسليمه بالحماية الأجنبية (التي لم يطلبها) ، ويندفع في مغامرات متوالية لتوكيد ارتباطه بالأكثرية والتزامه بقرارها وعدم خروجه عليها، ويفتح “أرضه” المسورة بحراب “التحالف الجولي” للمعارضين من “عرب العراق” كي يتلاقوا فيها فيقرروا – وهو منهم ومعهم – ما يرونه ضرورياً لاستعادة البلاد من حاكمها المحاصر الآن بتهمة اغتصاب السلطة لحساب أقلية جهوية ومذهبية وعشائرية هي أصغر بكثير من أن تستحق من أن تولى أرض الرافدين.
“الماروني” يعيش في أوهام الماضي، ويرفض أن يصدق أن العالم قد تغير، وإنه – بذاته – لم يعد يعني أحداً، وإن الاساطيل في الماضي قد جاءت لتحتل إرادة الأكثرية وأرضها ليس لكي “تحرره” هو بذاته وتنصره عليها، باسم غيرة الدين أو وحدة الثقافة!!
أما “الكردي” في العراق فيحاول التملص من ماضي الأوهام إياه، بعد تجاربه المريرة والمتعددة، بعدما أدرك أن “الخارج” لا يحمي أحداً، وأن “الداخل” هو البداية والنهاية، وإن الأكثرية قد تغفر التمرد والعصيان المسلح ولكنها لا تتسامح مع من يستعين عليها بالأجنبي، بحجة الاحتماء من ظلم الحاكم الجائر…
فإسقاط الظلم أو العسف مهمة الجميع، والأكثرية قبل الأقلية، وقد تسبق الأقلية بالاعتراض فيكون لها شرف الريادة ويحفظ لها “شعبها” هذا السبق إلى الوطنية، ولكنها تفقده ومعه حقوقها الطبيعية إن هي حولته إلى امتياز في الحكم، محولة بذلك وطنيتها إلى انتهازية سياسية، سرعان ما تحتاج إلى الأجنبي لحمايتها فوق سددته.
لكأنما يصر الموارنة على أن يكونوا “أقلية”، ويرفضون مبدأ الاندماج، في شعبهم والتصرف كجزء منه لهم ما للباقين وعليهم ما على الآخرين.
وما زالوا حتى اليوم يستخدمونه كلمة “لبنان” وكأنها الاسم الحركي للموارنة.. فمن أقروا “بلبنانيته” من المسلمين فهو المسلم بزعامتهم وقيادتهم وبالتالي رئاستهم، ومن أنكروا عليه “لبانيته” فهو “العربي”، أي “العميل للخارج”، والخارج قد يكون سوريا وقد يكون مصر وقد يكون فلسطين، أما أميركا وبريطانيا وفرنسا فليست في “الخارج” والموالي لسياساتها لم يسبق أن اتهمه “اللبنانيون” في وطنيته!
أقلية الأقلية ولا بعض الأكثرية،
لكأنما الأقلية هي سمة الدخول إلى سدة الحكم،
… وهي أقلية تتداخل فيها الأوهام فإذا هي خليط من “القومية” المزعومة و”المذهب” المميز بطقوسه حتى ليكاد يكون ديناً آخر غير المسيحية.
لعلهم يفترضون أن ذلك يميزهم عن “العرب” وعن “المسيحيين” في آن وبالذات عن سائر اللبنانيين من مسلمين وأرثوذكس وكاثوليك وبرتستانت الخ..
من “لبنان الكبير” إلى “كسروان” الذي كان، في أحسن حالاته، بعض “لبنان الصغير”،
من رئيس الرؤساء وأمير الأمراء إلى قائمقام في قضاء!
لكم هي مكلفة المكابرة ومجافاة حقائق الحياة!
وسيكتب التاريخ، ذات يوم، عن “الماروني” ما سبق أن كتبه عن غيره من المكابرين وأصحاب الأوهام والمتجبرين.
“أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته
ومن لا يسوس الملك، يخلعه”!
… وثمة بين “الكسروانيين من يصر على المضي في المكابرة إلى نهايتها المحتومة، الانتحار، فيصور معركة الخمسة مقاعد وكأنها الحرب العالمية الثالثة، ويفترض أن الدنيا ستنشق حولها إلى “حلفاء” و”محور” ، وربما استخدمت القنابل الذرية إنصافاً للمظلوم وإحقاقاً للعدل… الطائفي!
أما الكردي في شمال العراق فقد استوعب الدرس: لا بد من الأكثرية، وإلا دفعت تهمة الخيانة الأقلية، حتى ولو كان هدفها المعارضة السياسية.
إذا انفردت الأقلية بالمعارضة فهذا هو الانفصال، أو الانعزال، أو التقسيم بعينه. كائنة ما كانت الذرائع والمبررات.
الحكم الظالم ظالم للأكثرية، للمجموع ومن ضمنه الأقليات.
لا يمكن أن يستقيم حكم، في نظر الأكثرية، إذا كان ظالماً للأقليات ومضطهداً للمختلف بالرأي معه.
ولقد استقوى الكردي العراقي بمعارضته السياسية، وليس بعنصره، وعلى قاعدة هذه المعارضة استطاع أن يُدخل نفسه في قلب الأكثرية المناهضة لنظام بغداد.
بل لقد قدم للمعارضة “الأرض العراقيةط لكي تتلاقى فوقها فلا تظل مجرد جاليات أجنبية أو فلول قوى سياسية مهزومة يلتقي أفرادها في مقاهي بلاد الغربة، أو في فنادق مضيفين غرباء عن أهدافهم الأصلية يستقبلونهم ليحققوا لهم أغراضهم التي لا علاقة للعراقيين بها، فلا هي بين مطالبهم من حاكمهم ولا هي تتسق مع طموحاتهم إلى تغيير النظام.
… ومن سوء حظ “أمة كسروانط أن انتخابات أخرى تشد الأنظار والاهتمام، مع إنها تجري في بلاد لا تفوقها أهمية وإن زادتها في عدد السكان هي: الولايات المتحدة الأميركية.
… وهي بلاد يتكون مجموعها من أقليات متلاصقة، بقوة المصلحة، سلمت كل منها بالأخريات واندفعت جميعاً تتبارز في مجالات أخرى غير السلطة السياسية التي لا تعرف الأديان ولا الطوائف ولا المذاهب.
لماذا سجن الذات في نفق نهر الكلب، باعتباره الحدود مع “القوميات” الأخرى؟!
لماذا محاصرة الذات بين “العميد” و”العماد”، وأولهما خرج ولن يعود، لأسباب تخصه، والثاني لا تعني عودته غير الحرب على الجبهات جميعاً، وبداية الحرب المارونية – المارونية؟!
هل من يستطيع إقناع الموارنة بأن يحبوا أنفسهم أقل قليلاً ويحبوا لبنان أكثر قليلاً؟!
خصوصاً وإن مكانتهم في لبنان لم تتأثر، حتى الساعة، بعددهم، ولا بادعاءاتهم، ولا بماضي امتيازاتهم فيه كبيراً وصغيراً وبين بين؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان