كثيرة هي وجوه الشبه، أقله في الظروف الشخصية والسياسية، بين الرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الحكومة رفيق الحريري.
فكلاهما من خارج نادي الرؤساء، وكان وصوله “مفاجأة” أو “نقلة نوعية” و”خروجاً” على النص والعرف المعتمد في الأحوال العادية.
وكلاهما جاء بقوة الرغبة في التغيير، أو استجابة لضرورة التغيير، ثم إن كلاهما وصل بشعار الإنهاض الاقتصادي وتحسين شروط الحياة عموماً والقضاء على البطالة وتوفير فرص عمل جديدة وتوفير مساكن للذين بلا مأوى، على وجه الخصوص، باختصار فإن كلا من الرجلين تعهد قبيل تسلمه السلطة، أو عند تسلمه السلطة، بأن يأتي (أو ينجز) “بما لم يستطعه الأوائل”، فأشاع آمالاً عراضاً وصلت في بعض الحالات إلى حدود الأحلام بل الأوهام.
أو فلنقل إن الجو المحيط بكليهما قد أشاع مناخاً من التفاؤل الساذج بأن عصر المعجزات قد عاد من جديد، وإن مشكلات الناس ستحل بسحر ساحر، وإن المعضلات الاقتصادية جميعأً من الأعمار إلى الإنماء إلى عصرنة الإدارة ستحسم “ما بين طرفة عين وانتباهتها”.
بالنسبة كلينتون بدأ استفاقته إلى قسوة الأمر الواقع وصعوبة تغييره وهو بعد على عتبة البيت الأبيض، فأخذ يسحب من التداول الكثير من وعوده وتعهداته، وانطلق يتحدث بفصاحة عن تسرعه في إطلاق الوعود بالتغييير، حتى وصل به الأمر، يوم أمس، لأن يعترف بأنه لم يكن واقعياً.
أما رئيس حكومة لبنان فقد تطلب أمر وصوله إلى الحقيقة التي لا تبهج مدة أطول، ربما لأنه – برغم الجيش اللجب من المعاونين والمستشارين والموشوشين والمضحكين – لم يكن على إطلاع كاف بحالة البلاد عموماً، والدولة وإداراتها خصوصاً.
ومؤكد أن رفيق الحريري أطلق وعوده بحسن نية وبرغبة عارمة في إنجاز ما لم ينجزه الآخرون،
ولعله توقع أنه، وهو الاستثنائي بإمكاناته الشخصية وبقوى الدعم التي يحظى بها، قادر على ما لم يقدر عليه غيره.
ولعله توهم أن الأمور في هذه الجمهورية الصغيرة تمشي بنمط قريب من الذي اعتاده في المملكة الكبيرة والهائلة الثروة والمحصور حق القرار فيها بيد من يعتبر أنه قد أخذها بسيفه،
المهم، إن بيل كلينتون قد قالها صريحة: علي أن أكون واقعياً.
والطريف أن بعض المواضيع التي ألزمته بالواقعية تواجه الآن – ولو بحجم لبنان – الرئيس رفيق الحريري.
لقد فشل بيل كلينتون في أن يضغط العجز في الموازنة في مدى زمني قريب من ذاك الذي حدده في تعهداته الانتخابية.
وها إن حكومة الحريري تكشف أن إنجاز خطة (مجرد خطة) النهوض الاقتصادي لا يمكن أن يتم في الموعد الذي قدرته في الباية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كان الريئس الحريري يأمل في تأمين التيار الكهربائي خلال ستة أشهر، في أحسن تقدير، وخلال سنة على أبعد تقدير، لكنه اليوم وبإحساس عميق بالواقعية يعرف ويعترف أن تأمين الكهرباء يحتاج إلى ثلاث سنوات تقريباً، هذا إذا توفر التمويل اللازم والذي يتجاوز المليار دولار، وهذا رقم صعب توفره، أقله بالسرعة المطلوبة.
كذلك فقد وجد بيل كلينتون نفسه يصطدم بمؤسسة الجيش حين حاول تنفيذ تعهده بإعادة النظر في بعض من كانوا مستبعدين من التجنيد (لأسباب خلقية)…
بالمقابل فقد وجدت حكومة الحريري نفسها مضطرة للتراجع عن بعض الجوانب في مشروع خدمة العلم، لاسيما في ما يتصل بالإعفاء مقابل بدل مادي، بل إنها مضطرة لأن تعيد للذين دفعوا تهرباً من التجنيد ما سبق أن دفعوه لتبعد عن نفسها شبهة الاتهام بأنها تبتز الناس على طريقة: أولادكم أو فلوسكم!
وبالتأكيد فقد كان ممكناً تجنب مثل هذا الارتباك في معالجة شأن وطني كهذا، بمزيد من الدراسة والتأني والبعد عن الارتجال أو الخوف من المزايدة والمزايدين.
خلاصة القول: إن الواقعية أحد شروط النجاح. والواقعية لا تلغي الحلم، ولكنها تساعد في رسم الطريق الآمن إلى تحقيقه.
ومصارحة الناس بالحقائق، مهما كانت مرة، أفضل من تركهم ينامون على حرير ويستفيقون على شوك…
وما يجري في السوق المالية، التي عادت تتحرك بالمضاربة، يشكل جرس إنذار لهذه الحكومة بأن تكون أكثر واقعية، وبأن تكون أكثر عملاً وأكثر تفكيراً، وأوسع صدراً وهي تبحث عن سبل تسريع قدرتها على الإنجاز.
وليس دليلاً على سعة الصدر، مثلاً، أن يرد مجلس الوزراء على النقد الصادق وبروح الحرص على مصلحة البلا
والعباد، ببيان صحافي يتهم المنتقدين في ذمتهم أو في أخلاقهم أو في وطنيتهم، وكأن النقد صنف آخر من أصناف الإرهاب أو إنه بين المحرمات.
حتى الحاكم، مهما علا شأنه، هو واحد من البشر يصيب ويخطئ، وعيبه القاتل إن هو أخطأ أن يتمسك بالخطأ.
… وها هو كلينتون، إمبراطور الكون، يعترف بأنه أخطأ التقدير، وإنه اشتط في وعوده فأبحر مع الوهم مبتعداً عن الواقع الذي لا يتغير إلا إذا غيرناه، ولن نستطيع تغييره إلا إذا فهمناه وبعمق.
فهل كثير على الحكام في هذه الجمهورية التي بحجم حي في مدينة أميركية، والتي تفتقر إلى كل شيء تقريباً، أن يعترفوا بالخطأ، إذا ما أخطأوا، وأن يتحلوا بالشجاعة الكافية للتراجع عنه.
فالرجوع عن الخطأ ليس مجرد فضيلة، إنه دليل الرجولة والصدق مع النفس ومع الآخرين الذين ائتمنوا المسؤول على حياتهم وأرزاقهم ومصير بلادهم.
… ومثل بيل كلينتون، ها هو بطرس غالي يخرج من قوقعة الخطأ التي حاصره فيها الخوف من واشنطن، فيصدر توصية بفرض العقوبات على إسرائيل لتمنعها عن تفيذ القرار 799 القاضي بإعادة المقتلعين الفلسطينيين إلى أرضهم في فلسطين،
فهل كثير علينا إن نحن طالبنا بتصحيح الخطأ وتقويم المعوج في الممارسة الحكومية، وقد علمنا – بل حرّضنا – عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن نقومه حتى بسيوفنا؟!
أم إننا مع الأميركان في كل شيء ما عدا فضيلة الاعتراف بالخطأ في التقدير والرجوع عنه؟!
وأخيراً: ليس أرخص من الغضب، وليس أبأس من التهديد بالخروج من الملعب، أما الرجولة فهي مراجعة الذات وتقبل النقد (طالما تعذر النقد الذاتي) وتصحيح المسيرة من أجل مزيد من الإنجاز،
بل من أجل الإنجاز، أي إنجاز، وفي أي مجال، طالما أن البلاد بحاجة إلى كل أنواع الإنجاز وفي مختلف المجالات إطلاقاً.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان