الذاكرة جحيم المهزوم،
والذاكرة تستعيد مخزونها من الرباط فتعشي العين وتطمس الكلمات والسطور، فتمحي الدار البيضاء، وتشحب صورة “المؤتمر الاقتصادي حول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” لتطفو على السطح بعض وقائع القمة العربية السابعة التي أقرت: منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والتي كلفت الرئيس اللبناني (الراحل سليمان فرنجية) الذهاب إلى الأمم المتحدة ليبلغ العالم باسم العرب جميعاً هذا القرار الخطير،
من محاسن المصادفات أن تلك القمة قد اختتمت أعمالها في الثلاثين من تشرين الأول، أي في يوم افتتاح القمة الجديدة ، مع فارق عشرين عاماً،
ومنها أيضاً أن تلك القمة قد أقرّت الملك المغربي رئيساً للجنة القدس، بهدف تحريرها طبعاً،
وها هو إسحق رابين يقف بين يدي أمير المؤمنين ، وفي مواجهة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية (سابقاً) ليعلن – وسط موجة عارمة من التصفيق – أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل!
هذا بينما يخاطب مهندس المؤتمر وواضع نظريته شيمون بيريز الأقوام المحتشدة في قاعة الاحتفالات الكبرى في القصر الملكي، ناصحاً ومرشداً، فيقول: “إن الأرض فقدت أهميتها، وأن ما يميز الدول هو الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا..”.
“فقدت الأرض أهميتها” فعلاً، إلا بالنسبة لفلسطين وسوريا ولبنان، بدليل أن صاحب النظرية يرفض التراجع شبراً واحداً عما احتله بالقوة المسلحة، مبرراً احتلاله لفلسطين بأنه “عودة إلى أرض الميعاد”، وتشبثه ببعض الجنوب والبقاع الغربي والجولان السورية بأنه حماية لأمنه ووسيلة ضغط فعالة على السوريين واللبنانيين (والفلسطينيين إضافة إلى الأردنيين وسائر رواد التعقل العربي) لكي يسلموا بإسرائيل كحكومة مركزية للمنطقة برمتها، وبالتحديد الجغرافي الدقيق للمؤتمر: “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، أرضاً وشعوباً و”دولاً” ومؤسسات!!
الذاكرة جحيم المهزوم والمقصر والمضيع حقه أو ما كان بيده من حقه أو ما كان يمكن أن يكون فيها الآن،
والذاكرة جحيم، إذا ما صارت أمنياتك القابلة للتحقيق مجرد نصوب من رماد خلفك، يتقدم بك الزمن مبتعداً فتحسب أنك من دونها لست أنت، وتعيش حالة خوف من أشباحها التي تظل تطاردك فارضة عليك التضاؤل في ما تريده أو تطلبه أو تتمناه من غدك!
الذاكرة جحيم.. لكنك كنت وشهدت بعينيك (وقلبك) طوابير البسطاء من الغرباء يستوقفون موكب ياسر عرفات ليتبركوا منه باللمس وهم يذرفون الدمع ويعاهدونه على الجهاد من أجل تحرير فلسطين واستعادة المسجد الأقصى “الذي باركنا حوله”.
كنت وسمعت الملك الحسن، ذاته، يتحدث بجلال الخليلفة، عن الالتزام بتخليص القدس “التي فيها أولى القبلتين وثالث الحرمين”،
كنت وسمعت ذلك الضمير العربي النقي للفلسطينيين، الراحل محسن أبو ميزر، وهو يحاول إقناع الملك بتوجيه الجهد إلى “رعاياه” السابقين من يهود المغرب، الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من “اليهود العرب” داخل الكيان الإسرائيلي، لكي يعودوا إلى بلادهم، أو أقله لكي يفيد منهم كقوة ضغط سياسية هائلة التأثير، ليفرضوا على إسرائيل القبول بتسوية تحفظ كرامة الأطراف جميعاً والحد الأدنى من الحق الفلسطيني في فلسطين والقدس رايتها وقبلتها.
الذاكرة جحيم… فماذا عن الواقع؟!
الصفقة الأولى التي أنجزت في المغرب، وتحت الرعاية الملكية، تتمثل في قبول المنطق الإسرائيلي المباشر حول القدس: إنها العاصمة الأبدية لإسرائيل!
حتى الرئيس الأميركي الموالي لإسرائيل، ربما بأكثر مما تطلب، بيل كلينتون سجل تحفظاً نافراً وهو يتملص من زيارة القدس القديمة (أي العربية) لكي لا تؤخذ عليه الجولة السياحية وكأنها اعتراف بالقدس (الموحدة) عاصمة لإسرائيل!
أما الصفقات الأخرى فلن تتأخر في الإعلان عن نفسها،
… خصوصاً وأن النسبة العظمى من المشاركين العرب، مباشرة أو من خلف ستار، ينضوون جميعاً تحت لواء “نقابة النهابين والهبيشة”، ممن أثروا بغير جهد أو عرب جبين في السعودية وبعض أنحاء الخليج، إبان الطفرة النفطية،
وهؤلاء الذين جاءهم المال منفصلاً بالمطلق عن وسائل الإنتاج، فلا هم تاجروا ولا هم عملوا بالصناعة أو بالزراعة، وإنما أخذوا الرضى الملكي إلى الشركات الأجنبية، وجاؤوا بالشركات الأجنبية إلى تنفيذ الرغبات الملكية، فجنوا من هذه العمليات، مع ما يرافقها من مشهيات وأطايب، مليارات الدولارات.
وهؤلاء بلا وطن، ويؤمنون بمبدأ بيريز “أن الأرض فقدت قيمتها” وولاؤهم لدافع العمولة، وهمهم منصرف إلى تحقيق أعلى نسبة من الربح بأرق جهد ممكن، حيثما كان، ولمصلحة أي كان، في كل زمان ومكان.
الذاكرة جحيم.. وفي الدار البيضاء المهجنة، وبعد عشرين سنة، سقطت “رباط الخيل” التي وقف عند شاطئها موسى بن نصير وجواده يتوغل حتى يكاد يغرق داخل المحيط، ليطلق مقولته العظيمة: والله، لو عرفت أن وراء هذا اليم يابسة لعبرت كي أنشر كلمة الله!
ما أبعد الرباط عن الدار البيضاء،
ما أبعد المال عن الأرض،
ما أبعد الملوك عن أولئك الذين كانوا يتبركون “بالرمز” المقدس لأنه آت ليأخذهم إلى اأرض المقدسة،
والأرض فقدت قيمتها، يقول بيريز، الذي وحده من بين الملوك يتشبث بالأرض فلا ينسحب منها ولا يبيعها ولا يؤجرها بكل مليارات ذلك الرهط من النهابين والهباشين الذين لبوا دعوته ليستأذنوه أن ينهبوا (تحت قيادته) المزيد!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان