الهزيمة ولود، ونتائجها وتداعياتها كالكائنات الحية تكبر مع الزمن وتنمو وتتضخم وتتشعب امتداداتها فتغطي وجوه الحياة جميعاً من السياسة إلى الاقتصاد ومن الثقافة والفنون إلى العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية.
لا تشيخ الهزيمة ولا يتبدل اسمها أو طعمها أو تأثيرها بمرور الأيام، بل هي التي تبدل كل شيء وتؤثر في كل شيء وتبقى تنخر في المجتمع نخراً، حتى يقع الحدث الجلل فتكون الصحوة وينتصر المهزوم على ذاته فيغير واقعه تغييراً جذرياً تنهار معه أسباب الهزيمة ومرتكزات دوام مناخها المسموم.
هذه المقدمة “النظرية” ضرورية لفهم بعض جوانب السياسة الأميركية تجاه العرب، في هذه المرحلة، وفي سياق “جهود التسوية السلمية” لأزمة الشرق الأوسط” أو ما كان يسمى سابقاً الصراع العربي – الإسرائيلي.
وسنكتفي هنا بجانب “شكلي” يتمثل بالتسويق الأميركي لمبادرة بوش، من خلال تصرفات ثلاثي الإدارة الأميركية الفاعل، أي: الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر ثم وزير دفاعه ديك تشيني.
*فالرئيس يطلق المبادرة بعناوينها الكبرى التي يمكن أن يفهمها كل فريق وفق مصالحه ووفق هواه،
*ووزير الخارجية يجول على الأطراف فيناقشها ويجادلها ويساومها وقد يختلف مع بعضها، وقد يخرج من بعض اللقاءات غاضباً أو محبطاً، وقد يعبر عن انزعاجه أو عن رضاه، لكنه لا ينفض يده ولا يعلن انسحابه، بل يكتفي بتغيير أسلوبه ثم يعيد الكرة مبتدئاً من حيث انتهى آخر مرة وليس من نقطة البداية.
*وأما وزير الدفاع فيمشي مباشرة إلى أهدافه بالقرار المتخذ في واشنطن بمعزل أو نيابة عن أصحاب الشأن، تاركاً الشرح والتفسير أو التبرير لزميله بائع الأوهام والكلام وزير الخارجية.
ليست هي المرة الأولى تمارس مع العرب لعبة توزيع الأدوار، هذه،
فالرئيس حكم وفوق الشبهات، ووزير الخارجية مهمته أن يمرر دبلوماسياً القرار الفعلي الذي ينفذه على الجبهة الأخرى وزير الدفاع.
والهزيمة ليست عاقر، إنها تلد “المبادرات”. والمبادرات تجيء مشوهة بطبيعة الحال، ومختزلة لأمرّ وأقسى النتائج السياسية للهزيمة العسكرية. ومفاوضات تسويق المبادرات تستهدف خفض سقف المطالب العربية، ولي ذراع المتصلب أو غير المستسلم باستخدام “شركائه” لإجباره على السير بخطى أضعفهم، وإلا… وجد نفسه بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية، ومعها معظم “العرب” ومعظم العالم!
وبمراجعة سريعة للمبادرات الأميركية من روجرز إلى بيكر يمكن رصد التنازلات العربية على امتداد العشرين سنة ونيف الممتدى بين الهزيمتين في 1967 ثم في 1991.
فهذه المبادرات تقنن، من جهة، الواقع العربي المهزوم وكأنه حقيقة ثابتة وتبني عليه،
ثم إنها، من جهة أخرى، تبلور كشفاً بتعاظم القوة الإسرائيلية غير المحدودة، والقابلة للزيادة دائماً والتي لا يمكن أن تنقص أبداً،
ولذا لم يكن المبادرون يوفقون إلى تحديد “حل وسط”، فأين الوسط التهاوي باتجاه الاندثار والتصاعد باتجاه المشروع الإمبراطوري؟
المبادرة هي حصيلة جمع الضعف العربي المستشري والذي لا سبيل إلى وقفه مع تعاظم القوة الإسرائيلية والتي لا سبيل إلى وقف تناميها!
ومع كل مبادرة تعطى إسرائيل المزيد من أسباب القوة، بحجة السعي لتليين موقفها وإقناعها بالتنازل.
كذلك يؤخذ من العرب المزيد من عوامل وحدتهم ومن أسباب قوتهم ومن قدرتهم على الصمود.
وليس متعباً إعداد كشف بما كلفت هذه المبادرات (مضافة إلى الهزائم) بحيث لم يتبق للعرب، تقريباً، لا في مواقفهم ولا في مواقعهم ما يفاوضون عليه.
صورة المبادرة الأميركية الجديدة هي صورة ديك تشيني يجرب الطائرة الحربية الإسرائيلية الجديدة،
لإسرائيل السلاح والمال والرجال، مجدداً: فمع صفقات السلاح الهائلة تقدم لإسرائيل الخبرات والتكنولوجيا للارتقاء بتصنيعها الحربي بحيث يداني صناعات الدول العظمى. ومع الصواريخ ترسل إليها عبر جسر جوي هائل الصواريخ المضادة للصواريخ.
أما المستقدمون الجدد من يهود الأرض فتنظم من أجلهم الانقلابات والحروب السياسية، والاقتصادية كما في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، أو الحروب الأهلية (كما في أثيوبيا).
ثم بعد هذا يعلن ديك تشيني إنه عملاً بالتحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل فإن بلاده قررت تخزين المزيد من الأسلحة والمعدات في الكيان الصهيوني تحسباً لأية حرب محتملة مستقبلاً في المنطقة!
فهل بعد هذه الحجة المفحمة يمكن أن يناقش أحد جدية واشنطن في الوصول إلى تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، تضمن أول ما تضمن حقوق شعب فلسطين في أرضه لتنتهي بإقناع اليهود بمقايضة سائر العرب أرضاً بالسلام؟!
المهم إن تشيني قد أشرف شخصياً على تخزين السلاح الأميركي الذي لا يمكن أن يكون (اليوم) موجهاً لأحد غير العرب (والمسلمين) في قاعدتين كبيرتين: الخليج العربي، في شبه جزيرة العرب، والكيان الصهيوني في المشرق! فنانوا وأبوابكم مفتوحة من الآن فصاعد!
على الهامش : يسهل على الأميركيين، وعلى كثير من العرب تبرير هذا التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، والموجه أولاً وأخيراً ضد العرب، ويصعب على هؤلاء “بلع” معاهدة حسن جوار أو أقل بين بلدين عربيين توأمين كلبان وسوريا!
مبادرة بيكر، إذا توخينا الصراحة والدقة، تعكس حجم الهزيمة العربية الجديدة التي كانت ذريعتها غزو صدام الكويت، بمقدار ما تعكس حجم الانتصار الإسرائيلي عبر الانتصار “التاريخي” لبوش وعسكره بقيادة نابليون العصر الجنرال شوارزكوف.
ولا مجال لمفاوضات كريمة بين منتصر بدم غيره وعلى أرض غيره، وبمال غيره، وبين مهزوم يزدهي بإنجازه مردداً، بينما جيشه يباد وبلاده تتمزق إرباً: يا ما أحلى النصر بعون الله،
لقد احتشد “العرب”، عبر المبادرة الأميركية ، في المعسكر الإسرائيلي من قبل أن تحين ساعة المفاوضات (المستحيلة؟)، كأنهم يقرون بحكم هزيمتهم، بل كأنهم كانوا ينتظرون الطلقة الأولى ليعلنوا استسلامهم،
والخوف أن تستفرد، مرة أخرى، آخر قلعة: سوريا، التي تحاول حتى اليوم أن تستنقذ ما تبقى من الكرامة، وأن تستخلص ما أمكن من الحقوق المضيعة،
والتركيز الأميركي على سوريا لا يعكس تقدماً في جهود السلام، بقدر ما يوحي بمحاولة حصار لموقف الصمود هذا حتى لا تنتشر عدواه، ولو بشكل محدود في المنطقة، المثخنة بالجراح والمهيضة الجناح والتي لم تسلم كلياً بعد.
ولعل القراءة المتأنية لتصريحات الملك حسين، ومعها وبالتوقيت ذاته تصريحات الياس فريج ريئس بلدية بيت لحم، ثم أخبار الصدام بين “فتح” وبين “حماس” في الأرض المحتلة، تكشف ما لم توضحه تماماً – أو ما لم يرد البعض أن يقرأه – تصرفات وزير الدفاع الأميركي قبل تصريحاته عبر جولته الأخيرة على القواعد الأميركية الثابتة والمتحركة في هذه المنطقة المنزوعة الإرادة.
ولهواة التحليلات أن يستمروا في بحثهم عن الحدود الوهمية بين المصالح الأميركية وبين المصالح الإسرائيلية في هذه الأرض المفتوحة الآن على مصراعيها لكل قادر.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان