يتعامل العهد الجديد مع نفسه وكأنه في نهاية عهده!
ويتعامل الناس مع هذا العهد الذي علقوا عليه الآمال العراض وكأنه على وشك الرحيل وليس على عتبة الشهر السادس فحسب من عمره المديد!
ويتعامل أهل الطائف مع هذا العهد وكأنه ليس ابنهم وليس منهم وليست لهم به سابق معرفة!
الأدهى أن معظم أطراف الحكم يتصرفون بتعجل من يستشعر قرب النهاية وانقضاء الفرصة الذهبية السانحة فيحاولون اغتنام الريح وقد هبت عليهم بالسعد والمجد التليد!
والأنكى أن معظم أطراف الحكم يتذرعون بالطائف لكي يفعلوا ما يناقض روحه ونصه على طول الخط،
فإذا كان عنوان “حكم” ميشال عون هو الاستقواء على الناس والتفرد بتقرير مصائرهم باسم “دولة الطائفة الواحدة”،
وإذا كان عنوان “حكم” سمير جعجع هو الاستقواء على “الدولة” وتهديد وحدة البلاد باسم “وحدة الطائفة القائدة”،
فإن عنوان حكم الشرعية، حتى الساعة، هو حكم الدولة بأسوأ الرموز في كل طائفة على حدة، وبالنتيجة بالأسوأ من رموز الطوائف قاطبة،
لقد أفرز العجز أسوأ ما في أطراف الحكم بدل أن يكون اتفاق الطائف المحرض لكي يعطوا أفضل ما لديهمز
لقد صاروا بنتيجة الخيبة أسوأ مما كانوا قبله وأسوأ مما كانوا من دونه،
بدل أن يكون باب الخروج من الطائفية العتيقة صار باب الدخول إلى المزيد من الطائفية لمواجهة الطائفية المتمردة في الشرقية والخارجة على الشرعية بالسلاح.
فالتعيينات يقررها كل طرف في الحكم باسم طائفته،
وهو يقررها منفرداً كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أو بمشاركة محدودة مع “الأقطاب” الآخرين في الطائفة، إذا تعذر عليه الالتفاف عليهم أو استغابتهم أو استغباؤهم!
لقد حاولت الميليشيات الطائفية، ورائدتها بلا منازع هي “القوات اللبنانية” المولود البكر لمؤسسة التعصب والأحقاد العريقة، اغتيال الدولة من الخارج.
وحاول ميشال عون، ولعله ما زال يحاول، اغتيال الدولة من الداخل،
وها هي الشرعية تكاد تنجز هذه المهمة، إما بالتقاعس والقصر، أو بالضياع أو بتغييب الأهداف الأصلية التي جاءت باسمها ومن أجل السعي لإنجازها.
كل حركة تصدر عن الشرعية، أو بعض أطرافها، هي مشروع فضيحة حتى يثبت العكس،
التعيينات فضيحة جديدة، وعدم التعيين تستر على فضيحة سابقة،
التشكيلات “مجمع” فضائح، وصرف النظر عنها أو تأخيرها فضيحة أكبر، لأنها تكشف حجم العجز والترهل وانعدام المقاييس وتهالك صورة الدولة وليس الحكم فقط!
وتحت لافتة الخروج من الصيغة الطائفية البائدة يتم تطئيف مؤسسات الحكم وإدارات الدولة كما لم تكن في أي يوم مضى.
فمجلس الوزراء ليس المرجعية السياسية للبلادن ولا بالطبع إطار قيادتها الوطنيةن ولا حتى أداة حكمها باسم الدولة الواحدة.. إنه أقل من ذلك بكثير، حتى إنه أدنى مستوى من المجالس الملية وأقل فعالية مع إنه أكثر طائفية،
وفي ظل هذا المناخ المسموم يفقد النفر القليل من المسؤولين الذين أطلوا على الحياة السياسية من باب الوطنية أو من خلال الكفاءة المهنية ورصيد النزاهة والاخلاص قدرتهم على الإنجاز، ويحاصرهم الشعور بتفاهة الدور أو العجز عن الإنجاز، أو الحرص على عدم توسيخ الذمة واليد، فإذا بهم يستنكفون أو يحردون، أو يستسلمون للأمر الواقع بحجة إن اليد الواحدة لا تصفق،
هل من الموضوعية وروح الانصاف أن تحمل الشرعية المسؤولية عن هذه الأوزار والموبقات جميعاً؟!
بالطبع لا،
فالمسؤولية تقع، بالدرجة الأولى، على “الداية” التي ولدت هذا العهد بعملية قيصرية وألقته في اليم مغلولاً وقالت له: إياك، إياك أن تبتل بالماء!
المسؤولية تتحملها اللجنة العربية العليا، برئيسها الحسن الثاني صاحب المغرب والملك فهد صاحب مملكة الذهب الأسود وراعي مؤتمر الطائف وعراب اتفاقه ثم الشاذلي بن جديد صاحب الجزائر ذات الرصيد المعنوي الكبير، وهو رصيد لا يصرف في مثل حالة لبنان المشرف على الافلاس.
فهذه اللجنة التي بدأت مهمتها بمغازلة الجنرال ميشال عون واستمالته والتلويح له بالمغريات، انتهت بالوقوف على باب سمير جعجع متجاهلة تاريخه الأسود و”قواته” سيئة السمعة، وقدمته للعرب والعالم وكأنه المنقذ من التقسيم والتفتيت والحرب الأهلية، وفي اللحظة التي كان يخوض فيها مع “أخو رأسه” ميشال عون الفصل الأبشع في سياق هذه الحرب: إبادة “مجتمعه” المسيحي!!
وفي الحالين كانت اللجنة العربية العليا، ومن ثم الوزارية، تخصم من رصيد “ابنها” الشرعي، أي العهد الجديد، وتفاقم من ضعفه بدل أن تعمل لتعويضه النقص في قوته.
لقد استنكفت هذه اللجنة العليا عن مساندة العهد الجديد في الحرب التي باشره بها “الضابط المتمرد” ميشال عون،
لا هي ساعدته مباشرة، ولا هي سمعت له بأن يستعين بالقادر على مده بالدعم الحيوي المطلوب،
لا هي نفحته حفنة من الدولارات، ولا زودته بالحد الأدنى الممكن من العدة اللازمة للدفاع عن النفس في مواجهة حرب يشنها عليه – عملياً – طرفان يملك كل منهما ترسانة هائلة من الأسلحة والذخائر وأرصدة لا تنفد من الدولارات!!
وبدل أن تكون اللجنة في صف الشرعية، بغير تحفظ، وتحجب اعترافها عن سمير جعجع وتمتنع عن الاتصال به تاركة للشرعية ذاتها أن تتعامل معه “كقوة أمر واقع” بشروطها وبالتوقيت المناسب لها، اندفعت هذه اللجنة الكريمة نحو “بطل تهجير المسيحيين” وحامل لواء مشروع التقسيم تحت لافتة الفيدرالية تزكيه وتشيد بوطنيته وتتمنى عليه أن ينقذ “اتفاق الطائف” وحكم اتفاق الطائف بأي ثمن يريد!
صار سمير جعجع هو عنوان الاتفاق الذي توهم اللبنانيون إنه يرسم لهم طريق الخلاص من الطائفيات ومن ميليشياتها، وأهمها وأخطرها وأعرقها في الخروج على الدولة والوطن والعروبة والعرب هي “القوات اللبنانية”،
وهكذا انتعشت مجدداً مختلف الميليشيات الطائفية وتوجهت إلى الله بدعاء أن يديم عليها نعمة اتفاق الطائف وأهله الكرام،
ولقد انعكس ذلك مباشرة على صورة الحكم وحركته وسمعته وتصرفه: فإذا كان معيار النجاح في عيون أهل الطائف تأكيد التعصب الطائفي وغثبات الكفاءة في تهديم مشروع الدولة ونسف حلم الوطن فليكن وليبرز كل أسوأ ما فيه!
والعهد الجديد يكاد يسقط ضحية اتفاق الطائف الذي لما ير النور، بالمعنى الدستوري والسياسي.
الحكم الذي جاء باسم اتفاق الطائف يكاد يتهاوى ساحباً معه إلى ذاكرة الماضي ذلك الاتفاق الهزيل الذي ما قبله الناس بعقولهم بل سلموا به تسليم اليائس حين صوّر لهم وكأنه وعد بالسلام، أي سلام، ووعد بإنهاء الحرب المفتوحة ولو على حساب مستقبلهم.
إن الحكم الذي لم يعزز بأسباب القوة ولا بالحد الأدنى من الامكانات المطلوبة لحل مشكلات الحياة اليومية للناس، يصغر يوماً بعد يوم تماماً بقدر ما تكبر معضلاته.
إن “حكم الطائف”، بوضعه الراهن، إدانة صريحة لأهل الطائف، قبل الكلام في صفات أطرافه ومباذلهم وموبقاتهم العديدة.
بل إن بعض الحملة على هذا الحكم تصدر عن جهات محسوبة على أهل الطائف، وبالتحديد على المملكة العربية السعودية.
كما إن بعضها الآخر مصدره الفعلي هو عجز الحكم عن الانجاز حيث يجب أن ينجز،
فالحكم العاجز عن توحيد البلاد، والذي يعاني من الشعور بالإحباط وتخلي “أهله” عنه، لا يجد أطرافه ما يفعلونه غير تقاسم ما تبقى من مؤسسات دولته وإدارتها (وربما أموالها) ، باعتبار أن المصير مجهول وإنه من الأفضل أن “يأكلها السبع ولا يأكلها الذئب”!!
لا مجد التوحيد، ولا سؤدد بناء الدولة، ولا عزة تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، ولا زهو “مخترع” الكهرباء أو “مكتشف” المياه، فلا بأس من استقطاع حصة من التعيينات وبعض المواقع في التشكيلات (الدبلوماسية)، ولا بأس من وضع اليد على جزء من الاعتمادات التي تؤمن بعض المشتريات… فما لا يدرك كله لا يترك جله!! وما دمت أنا بخير فجاري بأل خير الخ.
أيهما المسؤول الفعلي: أهل الطائف لأنهم أنكروا بنوتهم لعهد جاء باسمهم وعلى يدهم، بحجة إنه قاصر وعاجز، أم الحكم العاجز لأن أهله رفضوا مده بأسباب المنعة والقوة والحياة؟!
إن أهل الطائف يشترطون على الحكم أن يوقف الحرب وأن يسترد الجيش من “الضابط المتمرد” وأن يحل مشكلات الناس اليومية وأن يباشر إعادة البناء لكي يفكوا كيسهم فيعطونه ما هو بحاجة إليه،
وهم يتذرعون بخلافات أهل الحكم أو بالحكايات عن “صفقاتهم” وباستمرار حالة الحرب بين الخارجين على الشرعية في الشرقية، حتى لا يعطوا فيكون موقفهم كمن يشجع على تخريب البلاد وإدامة الحرب،
لكن موقفهم المستنكف هذا لا يؤدي فعلاً إلا على تشجيع قوى الأمر الواقع على تخريب البلاد وإدامة الحرب وإضعاف “نواة الدولة” كما يحاول تجسيدها العهد الجديد، لاسيما عبر “جيشه”،
ثم إن الحكم لا يملك من القدرة والامكانات ما يمكنه من وقف الحرب وإعادة توحيد البلاد وبناء الدولة،
فكيف تراه سينجح في امتحان القبول بحيث تنهال عليه المساعدات بأطنان الدولارات والريالات والدنانير الذهبية؟!
ماذا بعد؟! وماذا ينتظر المنتظرون؟! ومتى تراها تصدر كلمة السر الموعودة عن واشنطن؟!
وهل ستختلف هذه الكلمة بمضمونها في حال عودة اسحق شامير إلى الحكم في إسرائيل عنها في حال نجاح الأميركيين في استيلاد حكومة جديدة برئاسة معتمدهم الجديد في “حزب العمل” اسحق رابين؟!
هل ينتظر أهل الطائف الأذن الإسرائيلي؟!
وهل سيبقي ميشال عون وسمير جعجع وعجز الشرعية وطناً يستحق التضحية لإنقاذه متى أذن “الشركاء” الإسرائيليون؟!
وهل سيبقى في البلاد أحد ليحكمه هؤلاء الأتون باسم الطائف واتفاقها المجيد؟
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان