تنفس كثيرون الصعداء، أمس، وهم “يطمئنون” إلى معرفة الطرف الخاسر في المعركة على رئاسة حزب الكتائب،
فمهم أن يكون جورج سعادة قد ربح، بالنسبة لبعض الناس، ولكن الأهم قطعاً – وبالنسبة لمعظم الناس – أن يكون سمير جعجع قد خسر… و”بتفوق”!
والمعركة “صغيرة” ومحلية داخل المحليات أو تفصيلية بين التفاصيل اللبنانية التي تشكل مادة الحياة السياسية وربما مادة الكيان اللبناني ونظامه الفريد، لكن دلالاتها كثيرة، وفي نظر البعض خطيرة، وهنا أبرزها:
*لأن الخاسر هو سمير جعجع، يمكن القول أن التيار الغالب في حزب الكتائب، يميل إلى الخروج نهائياً من دائرة الحرب الأهلية ومنطقها،
وبغض النظر عن مدى الشعبية أو الفعالية أو الوزن السياسي الذي ما زال يتنتع به هذا الحزب المثخن بالجراح والمثقل بالتاريخ الحافل لعائلة “القائد المؤسس” بيار الجميل، فإن “الحرس الكتائبي القديم” قد أظهر رغبة في المصالحة.. مصالحة الذات، أولاً، ثم مصالحة الآخرين في “الطائفة” بداية ثم خارج حرمها ومدى نفوذها الحيوي.
ولعل هذا يعكس ميلاً عند الطائفة المارونية عموماً إلى المصالحة، مصالحة الذات ثم التصالح مع الآخرين.
ولو نجح سمير جعجع لاعتبر الكثيرون ذلك بمثابة تجديد للحرب داخل الطائفة وعليها، ثم على “الطائف” وصيغته (وحكمه وحكومته).
*ولأن الخاسر هم سمير جعجع فقد فسرت هزيمته كخطوة حاسمة على طريق إعادة الاعتبار “للقديم” و”التقليدي” في الحياة السياسية اللبنانية.
لقد انتخب كثيرون “خصم” جعجع، تعبيراً عن انتهاء زمن التطرف وفض “الجديد” الذي أنجبته الحرب “القذرة” كما يراها الآن معظم اللبنانيين.
لقد أتيحت لهم أخيراً فرصة أن يقولوا رأيهم فرفضوا “هذا” التغيير المفروض عليهم بقوة السلاح، مرجئين حسابهم مع القيادة “المستمرة” للحزب لكي يخوضوها في ظروف أهدأ بعيداً عن التحدي وعن الخوف من اجتياح “الانقلابيين” والذين يرونهم خارجين على الحزب… حزبهم، على الأقل.
*ولأن الخاسر سمير جعجع فقد اعتبرت النتيجة انتصاراً للحزب (ولو متهالكاً) على الميليشيا (ولو غنية وذات سطوة)… بل رأى فيها البعض انتقاماً لكرامة الحزب التي سفحت على يد بعض العائلة أولاً ثم عبر الجو الإرهابي الذي نشرته الميليشيا باسم الحزب ولحسابه (نظرياً).
لقد جاء زمن دفع المستحقات القديمة..
فالذين ناصروا بشير الجميل يعلنون “توبتهم” ولو متأخرة، الآن،
والذين التحقوا بأمين الجميل وحاولوا حمايته كرئيس “كتائبي” يكفرون عن سيئاتهم عبر توكيد خروج الحزب من حظيرة العائلة التي طالما استخدمته سلماً للوصول إلى السلطة (بعضها أو كلها) فلما انتفت حاجتها إليه عملت على تحطيمه.
والذين تورطوا في تجربة تبرير الأخطاء باسم مصلحة الحزب، أو الحرص على وحدة الحزب، وانقادوا خلف الميليشيا وكأنها “تجديد” لشباب الحزب الذي شاخ مع مؤسسة وكاد يقضي معه، يحاولون – ولو متأخرين – أن يوقفوا مسلسل الخسائر والتراجع الشامل.
فالمغامرات قد انتهت بكوارث لا حصر لها على المستوى السياسي،
والنجوم “العسكريون” لهذه المغامرات لم يفشلوا في تحقيق أي نصر عسكري جدي فحسب، بل تسببوا في تفاقم حجم الخسائر السياسيةز
*ولأن الخسائر هو سمير جعجع فقد سقط نهائياً الادعاء السخيف بقدرة أي كان على حصر تمثيل طائفة أو منطقة أو جهة بشخصه الكريم.
ليست “ألقوات اللبنانية” الممثل الشرعي الوحيد للمسيحيين في لبنان، ولا حزب الكتائب هو الممثل الشرعي الوحيد للمسيحيين في الشرق.
بالمقابل ليست “أمل” و”حزب الله” الممثل الشرعي الوحيد للشيعة في لبنان، ولا الحزب التقدمي الاشتراكي الممثل الشرعي الوحيد للدروز الخ…
ومن أسف أن الطوائف قد هزمت “الأحزاب”… لكن الأحزاب هي المسؤولة عن هذا المصير بعدما توغلت داخل الطوائف إلى هذا الحد، وارتضت مثل هذا التشوه المريع طلباً لشعبية رخيصة يأتي بها نفاق الغرائز ونشر رياح السموم لاستدرار العواطف المريضة.
*كذلك فقد سقطت أسطورة أن يكون لأية دولة “معتمد” أو “وكيل حصري” أوحد. وإذا كانت بعض أوساط “القوات” حاولت الإيحاء بأن الولايات المتحدة الأميركية قد اعتمدت جعجع وكيلاً أو ممثلاً لسياستها في الوسط المسيحي، وفسرت تصريحاته النارية بل الاستفزازية الأخيرة بأنها تعبير عن حيازته “درع التثبيت” بعد زيارته لواشنطن، فإن الوقائع جاءت لتدلل أن الولايات المتحدة الأميركية كأية دولة أخرى لا تهتم كثيراً للأشخاص ولكنها تهتم للأدوار، وإنها – باللبناني – ما تزال مع اتفاق الطائف، و”بالعربي” ما تزال مع الدور السوري في لبنان، واستطراداً فهي مع هذه الصيغة – على هشاشتها – لا تريد لها أن تسقط أو أن تتصدع أكثر فأكثر حتى تتهاوى… بالسكتة القلبية.
البعض يقول إن دهاء ابن شبطين قد غلب “مراجل” ابن بشري، وإن الجو الإرهابي الذي استولدته تصريحات جعجع ومباشرته بتقبل التهاني برئاسة الكتائب قبل الانتخابات بفترة طويلة، كل ذلك قد أسهم في استنفار ليس فقط خصوماته بل أيضاً “المحايدين” الذين شعروا بأنه قد تجاوزهم بل وألغاهم وقرر بالنيابة عنهم.
لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير. لقد جعلها جعجع معركة ضج الجميع فكان منطقياً أن يخسرها… و”بتفوق”.
ولا شك بأن الميليشيات عموماً هي في عداد الخاسرين.
ولقد أثبت جعجع، من جديد، إنه محترف خسارة، وإنه “بطل” الحروب التي لا يمكن أن تنتهي بنصر.
أكثر من ذلك: أثبت أنه أقدر من جميع خصومه على “إلغاء” تنظيمه الذي ولد في الحرب ولها ومات معها، والذي أخذه جعجع غصباً ليجعله “منطة” إلى مستويات أعلى فكان أن تهاوى تحت ثقله بكل التركة الدموية.
على إن الإنصاف يقضي بأن نشهد للكتائبيين عموماً بأنهم قدموا معركة نظيفة.
حتى سمير جعجع عرف كيف يخسر.
وهذا يقبت أن البلد معافى بما يكفي لأن يخوض تجربة الانتخابات النيابية التي حاول جعجع في ما حاوله أن يجعل إجراءها أكثر صعوبة، أو حتى مستحيلاً، بالقفز إلى رئاسة حزب الكتائب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان