مع التحفظ المبدئي والاعتراض القاطع على الخطف واحتجاز حرية أي إنسان، مواطناً كان أم أجنبياً، فلا بد من التنويه بالقرار الصحيح الذي اتخذته الجهات الخاطفة، كائنة من كانت، بالإفراج عمن تبقى من الرهائن الأجانب لديها في “بيروت” وتفرعاتها و”ضواحيها” القريبة والبعيدة.
إن إطلاق الرهائن تحرير للخاطفين قبل أن يكون تحريراً للمخطوفين والمحتجزين،
وهو استعادة لنصاب القضية السياسية في وجه حكومات الأقطار التي ينتمي إليها هؤلاء المخطوفون،
فمن قبل الخطف كنا كشعوب ضحايا لطغيان تلك الحكومات ونزعاتها الاستعمارية وسعيها إلى الهيمنة واستعباد الآخرين ونهب ثرواتهم القومية الظاهرة أو المستترة،
وبعد الخطف صرنا، كشعوب، رهائن، وتحولنا – نحن الضحايا – إلى جلادين، وبدونا في صورة الجلاد الذي بات، عبر أشخاص المخطوفين العزل والمستفردين، ضحية.
صار الواحد منهم بأمة منا،
وصار الاختطاف عنواناً على ضعفنا وليس دليلاً على قوتنا، ومؤشراً على جنوحنا إلى استسهال المعارك الجانبية والفردية هرباً من الحرب الفعلية في ميدانها الصحيح وضد الجلادين الأصليين.
نعجز عن مواجهة الخطط الجهنمية للرئيس الأميركي (السابق) رونالد ريغان فنخطف أستاذاً جامعياً يحمل الجنسية الأميركية أو حتى “الغرين كارت”، أو قد يكون هندياً يرطن باللغة الإنكليزية.
على إن الأخطر إن عمليات خطف الرهائن الغربيين واحتجازهم قد أساءت إساءة بالغة إلى قضية نبيلة وعادلة هي مقاومة المحتل، بالسلاح، سعياً وراء هدف جليل لا يستطيع أن يجادلنا أحد في حقنا فيه وهو تحرير المحتل من أرضنا بأي وسيلة متيسرة.
فالأرض أغلى من أصحابها، فكيف بغاصبها عنوة، ناهيك ببعض الرعايا الأجانب الذين يتحولون من رصيد في حسابك إلى وثيقة إدانة ضدك وضد قضيتك العادلة؟!
لقد عاش اللبنانيون، لاسيما أولئك الذين فرضت عليهم الأقدار أن يكونوا تحت الاحتلال، مفارقة رهيبة: كانوا يصوّرون للعالم وكأنهم وحوش ضارية في حين يفتك بهم الاحتلال الإسرائيلي فتكاَ ذريعاً فينسف بيوتهم ويهجرهم من قراهم ويحرق الزرع والشجر، لكن الاهتمام الغربي يظل مركزاً على الرهائن، ويكاد يفترض أن هذه الاعتداءات هي رد – مجرد رد – على محتجزي الرهائن، وإنها بالتالي مبررة طالما إنها تستهدف هذه الجماعات الهمجية التي لا قلب لها ولا وازع من ضمير ولا تميز بين الحكومة الظالمة والمواطن المظلوم؟!
فهل من العدل أن يدفع الشعب في جنوب لبنان، كله، الفدية عن قس مهووس بالإعلام كتيري ويت؟!
الحرب هي الحرب، لكن الإنسان هو الإنسان،
ومفارقة مفجعة هي تلك التي تتبدى في تحول المستضعفين العرب والمسلمين إلى طغاة وظلمة وجلادين من خلال بعض التصرفات المتسرعة والرعناء ضد أشخاص كل جريمتهم إنهم “أجانب”، في حين إن مصالح القوى الأجنبية – إياها – تتعاظم في بلادنا بدل أن تتناقض!
إن معظم البلاد العربية والإسلامية، من موريتانيا إلى إيران، هي الآن أكثر ارتباطاً بالغرب منها عشية احتجاز الرهائن، وتبادلها التجاري مع “الشيطان الأكبر” أو مع الدول الغربية التي تدور في فلكه أوسع مما كان قبل خمس سنوات،
ومؤكد إن المؤذنين لم يرفعوا الآذان حين احتجز تيري ويت أو غيره من الرهائن، تلذذاً أو انتشاء بفرحة الفوز، ولكن أجراس الكنائس قرعت ليل أمس في بريطانيا كتعبير عن زهو الانتصار على المتخلفين والمتعصبين من أتباع “الدين الآخر” المعادي لحقوق الإنسان، كما يريد الغرب أن يصور دين العرب والمسلمين عموماً.
الحرب هي الحرب، والإنسان هو الإنسان،
لكننا لم نقاتل العدو، عملياً، بل قاتلنا ضد أنفسنا.
لقد كنا طوال الوقت في خانة الخاسرين، وكان “عدونا” المفترض في خانة المنتصر والفائز علينا مرتين: مرة بإخفاء جرائمه السابقة وطمسها من خلال “ضحايانا” المستضعفين، ومرة ثانية بإعطائه الذريعة لارتكاب مزيد من الجرائم (المبررة، الآن) بذريعة العمل للإفراج عن المحتجزين وحفظ كرامة الإنسان والذود عن حقه في الحياة.
لقد خسرنا معركة الإنسان في بلادنا حين اتخذنا من الإنسان الآخر هدفاً سهل المنال.
وخسرنا الحرب حين أفقدنا إنساننا اعتباره لنفسه من خلال استهانتنا بكرامة إنسان آخر، بينما كان الواجب الشرعي يقتضينا أن نقاتل الحكومة الظالمة حيث وجدت لاستخلاص حقوق الإنسان في الحرية والخبز والكرامة سواء في بلاده (متى كان أجنبياً) أو في بلادنا.
إن بلادنا هي المنكورة عليها حقوقها، وإنساننا هو المضطهد والمعذب والمسفه والملغى في الداخل والخارج،
إن الحرب هي الحرب، ومن أراد ميدانها لن يضيع عنه،
والكل يتمنى اليوم أن يطوى ملف الرهائن ليمكن التفرغ للمعركة الأصلية ضد العدو الأصلي وفي ميدان الأصلي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان