ما حصل في المجلس النيابي، أمس، أخطر من أن يتم التغاضي عنه واعتباره مجرد “شطحة” أو سوء تصرف صدر في لحظة غضب عن وزير أو عن بعض النواب، قديمهم والجديد.
لقد خيّم على “المؤسسة الديمقراطية” الأولى جو طائفي كريه كاد يفرز فيقسم “ممثلي الشعب” ليس بين معترض على مشروع إعادة بناء الوسط التجاري لبيروت وبين موافق عليه، بل على أساس من الانتماء الديني!!
لكأن بيروت، الأميرة والعاصمة ودرة الشرق وقلب الوطن، تخص المسلمين بأكثر مما تخص المسيحيين، أو تخص “سكانها الأصليين” بأكثر ماما تخص أهلها أي عموم اللبنانيين ومعهم كل العرب وربما بعض العالم!
أو لكأن بيروت موضوع استثمار شخصي لشخص أو لطائفة، فمن اعترض عليه صُنف عدواً لها وكارهاً لاستعادة وجهها الصبوح ودورها الحضاري وموقعها السياسي الحاكم كأساس للدولة المركزية وكمنتدى فكري للعرب التهائين عن هويتهمن واستطراداً كمطبعة وصحيفة وكتاب وقصيدة وأغنية وجامعة ومستشفى وشارع وطني يحمي ويصون – بقوة الجمهور أو الرأي العام – قضاياهم العادلة من التبدد بالتفريط أو بالانحراف أو بالإهمال الذي يعادل – بنتائجه – التآمر مع الأجنبي.
وبغض النظر عن طبيعة النقاش الذي أثير في اللجان النيابية حول التعديلات التي أدخلت على مشروع القانون القاضي بإنشاء شركة عقارية لإعادة إعمار الوسط التجاري، فإن المناخ المسموم الذي أحاط بالنقاش والتعبئة الواسعة والتعبئة المضادة هي مصدر الخطر ليس على المشروع ذاته أو حتى على الحكومة والحكم بل على صورة “الجمهورية الثانية” ومستقبلها.
لم يكن النص هو موضوع النقاش بل “النوايا”،
ولم تكن الألسنة هي التي تنطق بالحجج والدفوع، بل “النوايا”،
ولم تكن الألسنة هي التي تنطق بالحجج والدفوع، بل “النوايا”،
وفي صراع بين نوايا مضمرة ونوايا مضمرة يصبح منطقياً أن تتفجر الأطماع أحقاداً وأن يتم اللجوء إلى الضرب تحت الحزام وسائر أسلحة الحرب الأهلية!
فإذا صار المشروع “سنياً” يسهل استنفار غير “السنة” ضده،
وإذا تحوّل الهدف من الوطن إلى الأفراد، وإلى “البيارتة” من بين اللبنانيين لا تحتاج استثارة أبناء الأرياف والأطراف إلى كبير جهد.
وبين الهجوم على الحكم عبر رفيق الحريري، أو الهجوم على رفيق الحريري عبر الحكم، أو الهجوم على سوريا عبر الاثنين معاً، تضيع بيروت – العاصمة ويتهاوى معها مشروع الدولة المركزية القوية وسائر الأحلام التي تلخصها الأغنية المفضلة للسكارى آخر الليل في أندية الليل “راجع راجع يتعمر راجع لبنان…”.
الطريف إن حملة الاستنفار ضد المشروع تركزت في البداية على “السنة من أهل بيروت”، بوصفهم مالكي العقارات أو المستأجرين أو المنتفعين بها، فصوّر لهم أن حقوقهم مهددة وأنهم سيفقدون كل شيء بمجرد أن يستبدل صك الملكية (الطابو الأزرق) بأسهم لحامله في الشركة العقارية العتيدة.
أما اليوم فإن الناطقين باسم هؤلاء “البيارتة” يتولون قيادة الهجوم على معارضي المشروع ويصوّرونه وكأنه الفرصة اليتيمة لبعث “الأميرة” وعودة الروح إليها بأكسير الحريري…
كل هذا والحكومة ضائعة، مشتتة، مفككة، لا تعرف كيف تدافع عن “مشروعها”، أو كيف تحمي “التضامن الوزاري” وبالتالي وحدة الحكم الذي بلغت حماسته – ذات يوم – أنه حاول “تهريب” المشروع وتمريره خلسة وكأنه “صفقة مشبوعة” بينه وبين رفيق الحريري القادم لشراء ما تبقى من البلاد وعاصمتها – الأميرة!
لقد سقطت “القضية” بين محام ركيك يتصرف “على قدر أجره” وبين وكيل مستفز لأن دوره قد أهمل وتم تجاوزه فلم يبلغ ولم يستشر وطلب إليه البصم على مشروع “مذهب”… وبالمجان!!
وأسوأ ما في الأمر إن كل الأطراف قد لجأوا إلى السلاح الفاسد ذاته: الطائفية. المروّج للمشروع استخدم شعارات طائفية ودغدغ غرائز وحساسيات جهوية ومذهبية، والمعترض – لأي سبب أو غرض – رد بهجوم مضاد مستخدماً السلاح ذاته ولو مموهاً بطروحات قانونية أو فقهية أو اقتصادية أو فنية – هندسية – جمالية الخ.
إن الحاضر أمام الجمهور الآن رفيق الحريري لا بيروت، والمشروع بوجهته الاستثمارية لا بالاستهداف السياسي للحكم في إعادة بناء عاصمة دولته.
بل إن الحكم صار في موقع “المتواطئ” بقصد الفائدة المباشرة لأطرافه وفقد مشروعية طرح المسألة وكأنها تمثل بعض رؤياه أو حلمه في بناء منارة حضارية للبنان والشرق العربي بكل الإمكانات المتاحة، لاسيما اللبنانية فالعربية منها.
وسقط سهواً مجلس الإنماء والاعمار الذي يكاد يفقد، عبر الجدل المقيت الدائر الآن، ما تبقى من حصانته المعنوية كمؤسسة قيادية في الدولة بغير أن يربح المصداقية أو السمعة المالية التي لمؤسسات رفيق الحريريز
لكن أخطر النتائج أن يسقط المجلس النيابي، الذي غض المواطن النظر عن واقعه غير السوي عبر التمديد والتعيين، حرصاً على “رمزيته” ودوره التوفيقي وعدم انجرافه مع العواصف الطائفية والمذهبية العاتية التي اجتاحت البلاد في الخمس عشرة سنة الأخيرة.
وليس من مخرج بالتلفيق أو بالتوفيق الشكلي، بل لا بد من إعادة الاعتبار إلى المسميات، فلا يخسر اللبنانيون مع بيروت الحكم بمؤسساته جميعاً، أي “الجمهورية الثانية” التي لما تكتمل ولادتها وبالكاد “تمتعت” باسمها الفخيم!
وكالعادة فإن الخسارة تقع على الدولة، أي على المواطن، والأرباح تذهب إلى الذين يحاولون إلغاءها وإلغاءه.
ورفيق الحريري هو مجرد عنوان، و”مشروعه” مجرد ذريعة، وبغض النظر عما فيه من أخطاء وما رافقه من دفاع عن جدواه حقق من الخسائر ما لم تحققه أعظم الهجمات الصائبة أو الخاطئة السليمة أو المغرضة عليه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان