مرة ثالثة ستتوجه “الوفود العربية” للتفاوض على المفاوضات، أي على لا شيء، مع “الوفود الإسرائيلية” في واشنطن، في الفترة بين 17 و24 شباط الجاري.
ومرة ثالثة ستذهب هذه الوفود وفوداً، لكل منها غرضه ورؤيته وخطته الخاصة وما يفترض أنه “صفقته” السرية مع الإدارة الأميركية التي ستحقق له في اللحظة الأخيرة “مطالبه” من وراء ظهر، وربما على حساب “أشقائه” العرب الآخرين،
بل إن هذه الوفود ستذهب أكثر تفككاً وتباعداً هذه المرة، وبعد الذي حصل في موسكو، التي قسم مؤتمرها المتعدد الأطراف “وفود التفاوض العربية” إلى معسكرين متباينين كل التباين يتأرجح بينهما “الفلسطيني التائه” من دون أن يحسم أمره فيستقر هنا أو هناك.
وحدهما وفدا لبنان وسوريا استمرا، في واشنطن قبل موسكو، ثم في غيابهما عن “المؤتمر الإسرائيلي” باستهدافاته المباشرة في العاصمة الروسية، على التزامهما بموجبات الهدف الواحد والمصير المشترك.
لكن هذين الوفدين اللذين أثبتا كفاءة ملحوظة في إدارة لعبة التفاوض الاضطراري مع “عدو” حسن التدريب والتجهيز، يتجرعان يومياً مرارة لا حد لها بسبب ابتعاد “إخوانهم” المعنيين عنهم، سعياً وراء السراب ولو في صحراء من الجليد!
أخطر مصادر المرارة هو الوفد الفلسطيني، بمنهجه وتوجهاته التي أملت اختيار أشخاصه الذين نجحوا إعلامياً بمقدار ما خسروا – بوعي – في السياسة.
فلا عتب على “الأردني” ولا تثريب، فهو، من وجهة نظره، صاحب مصلحة في التفرد، سواء لترميم علاقاته مع حكام الجزيرة والخليج، أو لتوكيد التزامه القديم بأهداف السياسة الغربية (الأميركية) في المنطقة، أو لحماية عرشه من خطر البديل الفلسطيني إذا ما قررت واشنطن تبنيه… وهذا هاجس جدي لا يفارق الملك الأردني لحظة.
أما “المصري” فوسيط بائس بين الماء والنار، يحاول اكتساب ثقة “إخوانه العرب”. من دون أن يخسر شعرة من ثقة الولايات المتحدة في ولائه المطلق لها ولها وحدها، ومع الحرص على تجنب استفزاز إسرائيل التي تطالبه كل صباح بإظهار خضوعه لمقتضيات الصلح المنفرد معها وذلك عبر “غواية” الآخرين بالاقتداء به.
ويأخذ اللبناني والسوري على الفلسطيني أنه يقدم الشكل على المضمون، بل لعله يكتفي به.
فالحضور، مجرد الحضور عنده أهم من نتائج الحضور، ربما لأنه يرى في مجرد دعوته، أو التفكير بدعوته، نوعاً من الاعتراف به، هو الذي طالما غيب عن كل مؤتمر “دولي” تناول قضيته عبر تاريخها الطويل.
وعبر التمايزات بين “أهل الداخل” وأهل الخارج” وبين منظمة التحرير الفلسطينية والمعترضين على قيادتها وأدائها السياسي، يضيع الكثير من وهج القضية، ثم يضيع أكثر منه عبر الهرب من العرب إلى الأميركي سعياً إلى أخذ شيء – أي شيء – من الإسرائيلي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة إلى المفارقات الآتية:
1 – بدل أن يكون أهل الداخل هم الأصلب والأكثر “تطرفاً”، كما يشهد تاريخ المفاوضات في حالات مشابهة، فإنهم ليسوا فقط الأكثر استعداداً للقبول بما تيسر، بل إنهم يوفرون ذريعة لمن يريد أن يتنازل، سواء من داخل المنظمة أم من خارجها.
بل إن قيادة المنظمة تتذرع بأهل الداخل لتبرير مواقفها المرتكبة ولتجنبها أي تنسيق جدي مع الوفدين المعيين مثلها بنتائج هذه المفاوضات العاقر، والتي حدد الراعي الأميركي سقفها سلفاً ثم ترك “الضحايا” من العرب يقعلون أشواكهم بأيديهم مفترضاً أن وقت تدخله – كوسيط نزيه – لم يحن بعد، وإن أمامه بضعة شهور من أجل إثبات فعاليته… وتثمير تلك الفعالية في انتخاباته الرئاسية.
لقد بدا الوفد أحرص على نجاحه منه على إنجاح مهمته، فصار الوفد أهم من موضوعه،
كذلك بدا وكأن المنظمة – كمؤسسة – أهم من فلسطين،
الاعتراف بالوفد، الجلوس مع الوفد إلى طاولة، الاستماع إلى الوفد، إباحة أجهزة الأعلام للوفد. كل ذلك بدا في لحظات، في واشطن أولاً ثم في موسك، ولاسيما في موسكو، وكأنه هو بذاته الهدف.
أما المنظمة فعقدتها في هذا المجال أصعب، لأن الاعتراف بالوفد لا يستتبع بالضرورة الاعتراف بها، بل لعله يأتي على حسابها،
ويظهر اللبنانيون قبل السوريين يأساً من احتمال انضباط الطرف الفلسطيني والتزامه التنسيق مع شريكيه اللذين لا مجال للفصل بين “مسألتيهما” و”مسألته” مهما علت درجة البراعة في المناورة أو مهما نقصت درجة الأخذ بموجبات العمل القومي.
إنها قضية تعني الأطراف الثلاثة وتمس حقوقهم مجتمعين ومنفردين، “العدو” فيها واحد و”الوسيط” فيها واحد، والهدف المرجو منها – مبدئياً – واحد وهو “التسوية الشاملة والعادلة للصراع العربي – الإسرائيلي”.
وليس من باب المماحكة أن يقول بعض أعضاء الوفد اللبناني للدكتور حنان عشراوي، خلال أحد اللقاءات التضامنية مع الوفد الفلسطيني: “- لسنا نحن من سيترككم في منتصف الطريق، ولكننا نريد ما يطمئننا إلى أنكم، أنتم، لن تتركوا في منتصف الطريق”!
فالشعور العميق عن اللبناني والسوري إن الفلسطيني المستعد لأن يقبل بأي شيء، لن يتردد في التضحية بأي كان من أجل ألا يعود من المفاوضات بـ “خفي حنان”، حسب ما تقول التشنيعة الرائجة في الأرض المحتلة.
ومع وعي الطرفين اللبناني والسوري بأن المفاوضات تمر الآن بمرحلة جمود ، وإن واشنطن لا تبدو مستعجلة وتلمح بأنها تفضل إدخار قدرتها على الضغط لاستخدامه بتوقيت دقيق ومؤثر، فهما يحاولان حشر المفاوض الإسرائيلي في الزاوية وإحراجه لإخراجه بحيث يجهر – بعد كل المماحكات – بأنه لا يريد أن يعطي شيئاً، ليمكن من بعد مطالبة واشنطن بتنفيذ ما التزمت به عبر خطابات التأكيدات التي وزعتها – بسخاء – على الأطراف العربية المعنية لإقناعها بأن المفاوضات هي فرصة لاستخلاص بعض حقوقها المغتصبة في أرضها.
لكن ذلك يستدعي ألا ينفرد الفلسطيني ويتبرع بدعوة نفسه إلى حيث لم يدعه أحد، أو بقبول ما لم يعرضه عليه أحد، متوهماً أن تلك أقصر طريق لإحراج الإسرائيلي ومن ثم لاستدعاء “الشريف” الأميركي كي يقيم العدالة.
إنها “الحرب” عبر المفاوضات على نوع من المستحيل،
ومؤسف أن يذهب إليها أي طرف عربي متوهماً أنه يستطيع رمي الحقائق التاريخية والجغرافية، السياسية والثقافية، العسكرية والدينية، خلف ظهره، لأن النظام العالمي الجديد سيقيم “المدينة الفاضلة” على أرض العرب، وليس إلا عليها، ومن أرض العرب على أرض فلسطين وبعاصمتها القدس الشريف.
ولن يقرب “التسوية الشاملة والعادلة” أن يلغي عرب الجزيرة والخليج أنفسهم ودورهم ويذوبوا في السيد الأميركي،
ولا أن يتصرف الفلسطيني وكأن مشكلته الملحة هي في التحرر من “الوصاية العربية” وليس من الاحتلال الإسرائيلي،
فهذا الخروج على العرب يجعل الفلسطيني “لا أحد”، ويمكن منه الإسرائيلي أكثر مما هو متمكن منه، وعبره ومن بعده بأخوانه العرب، الذين لا يمكن أن “يحظوا” بحل خاص لمشكلاتهم إذا هم قفزوا من فوق مشكلته،
فالأرض هي الموضوع، بداية وانتهاء، والحقوق تجيء منها ولا تأتي من “الفراغ” أو من اللاانتماء.
وعلى هذه الأرض العربية، جميعاً، تدور “حرب المفاوضات”، “كل فلسطين” و”بعض سوريا” و”بعض لبنان” والبقية تأتي إن لم يظل الوطن أهم من الحكم، والموضوع أهم من الوفد، والقضية أهم من الأشخاص الذين مهما كبروا لا يستطيعون تلخيص الأوطان والشعوب في الحاضر، فكيف إذا هم حاولوا أيضاً اختزال المستقبل وشطبه بحرصهم على حاضرهم؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان