التفجير الذي هز لبنان، أمس، أكبر من حزب الكتائب، وأخطر من أن تحصر أضراره في حدود اللعبة السياسية المحلية أو في الصراعات داخل هذه الطائفة أو تلك.
إن ضخامة التفجير، بدلالاته السياسية التي تتجاوز لبنان، تكاد تحدد الجهة أو الجهات التي أعدت له أدواته وتوقيته مستفيدة من جو الاسترخاء الذي ساد في ظل اليقين بأن الحرب قد غدت خلفنا وإنها لا يمكن أن تتجدد أو ينسدل ليلها علينا مرة أخرى.
والتفجير الذي ينذر بانتهاء مرحلة وبدء مرحلة جديدة في لبنان تحدد سماتها التطورات المتلاحقة في المنطقة من حوله، يحتاج في مواجهته إلى حكم رصين ومتماسك بقدر حجم المسؤولية ولا تأخذه العزة في الإثم بحيث تخرجه كلمة نقد عن طوره، وينساق في الدفاع عن مصالحه الشخصية وارتباطاته المالية فينسى موقعه وحراجة اللحظة السياسية وضرورة حماية الصالح العام في هذا البلد المثخن بالجراح والمتصدع اقتصاده والمثقل بأزماته الاجتماعية.
ليس بالعنتريات والكلام المرسل على عواهنه والاستقواء على فقراء الناس بالقدرات “الفضائية” يمكن قيادة السفينة وسط هذا البحر المضطرب بكل الألغام والكمائن المزروعة فيه حتى لا يكون للمنطقة سلام إلا السلام الإسرائيلي ولا يكون لأهلها من خيراتها إلا ما يفيض عن حاجة “السيد الأميركي” و”حليفه الاستراتيجي الإسرائيلي”.
فالمهم أمن لبنان ومحيطه وسلامة اللبنانيين وحقهم في حياة كريمة، وبعد ذلك أو في ضوء ذلك ينظر في موضوع الحكومة وعمرها ومدى النجاح أو الفشل في أدائها، أما حكاية “طويلة على رقبتهم” فهذه خفة تؤكد الافتراق المطلق بين هواة السياسة وبين موجبات الحكم.
على أن الأخطر في كلام رئيس الحكومة، أمس، هو التزامه بأن يخضع الأعلام (المرئي خاصة) لأمزجة حكام الظلام العرب، وتطوعه لأن ينوب عنهم في الرقابة والمنع وتدجين الأفكار والآراء والأخبار والمعلومات والبرامج كافة بحيث تأتي مطابقة لنظرتهم إلى أجهزة الأعلام باعتبارها بين متممات الديوان الملكي أو التشريفات السلطانية لا تقدم غير ما يطمئن الناس إلى صحة “أسيادهم” وصفاء خاطرهم وكريم خلقهم السامي!
هذا يعني مرة أخرى أن الحكم في لبنان، حيث النظام ديمقراطي – برلماني – جمهوري، ولو نظرياً، يتواطأ على عقل المواطن العربي في كل أرضه، فلا يسمح للحقيقة بأن تصل إليه عبر أي جهاز إعلامي يمكنه اختراق الحواجز البوليسية والمالية والرقابية القائمة.
وكان اللبنانيون في بعض أقطار الجزيرة والخليج قد تلقوا مفاجأة طيبة وهم يستقبلون على شاشاتهم الصغيرة محطة “لبنانية”، وافترضوا أنها ستحمل إليهم روائح الديمقراطية وستكون “جسراً” إلى الحقيقة التي تطمسها أجهزة الأعلام الملكية، كما قد تكون “نقطة وسطا” بين أجهزة الأعلام الغربية المطلقة السراح (سي. ان.ان، بي.بي. سي، ستار الخ) وهي بالعشرات، وبين الأجهزة الحكومية البلهاء والخرساء التي تعامل “الرعايا” العرب جميعاً وكأنهم قطعان من القاصرين والمتخلفين عقلياً.
لكنهم سرعان ما صدموا، فالقاعدة هي ذاتها: لا مجال لصحافة عربية، بل ثمة صحيفة سعودية تفرض فرضاً على كل بلد عربي، ولا مجال لتلفزيون عربي، بل ثمة تلفيزون سعودي يفرض فرضاً على المواطنين العرب جميعاً، في المشرق والمغرب.
إنها القاعدة نفسها: بدل التصدير من السعودية مباشرة، لا بأس من محطات وسيطة وحسنة التمويه، فينطلق التوجيه أو التعميم من لندن أو من باريس أو من روما أو حتى من بيروت المدجنة والمعتقلة في أسار فقرها واحتياجها إلى المساعدة بل والإغاثة.
وليس بين مهمات الحكومة، في ما نعرف، أن تعمل “سيافا” لدى أنظمة الصمت العربي في عصر مشاعية المعلومات وسهولة توصيلها،
لقد صادروا الأرض والحبر والأقلام والأفكار والشعر، وها أن حكومتنا الديموقراطية تتبرع لكي تساعدهم على مصادرة الهواء، في حين يزدحم الفضاء بالأقمار الصناعية التي حولت العالم – فعلاً – إلى قرية صغيرة لا مجال فيها لحجب المعلومات عن الجمهور.
ونعود إلى التفجير الخطير الذي وقع في بيت الكتائب المركزي وطال لبنان كله، فنقرأ فيه رسالة ناصعة الوضوح موجهة إلى اللبنانيين وعبرهم إلى سوريا وإجمالاً إلى كل مواطن عربي ما زال يرفض التوقيع منبطحاً على شروط السلام الإسرائيلي.
لكأنه تلويح بالعودة إلى سياسة “الضرب تحت الحزام” تطويقاً للذين يحاولون – ضمن الظروف القاسية القائمة – تحسين شروط التسوية بأعلى قدر ممكن من الصمود والاستفادة من التناقض (المحدود) في المصالح لرفض الاستسلام بغير قيد أو شرط.
لكأن الهدف إرهاب كل أولئك الذين اعترضوا على اتفاق غزة – أريحا، برغم أن إسرائيل لا تنفك تحاول تفريغه – وهو الفارغ تقريباً – من أي مضمون، وتبتز صاحب التوقيع الفلسطيني لكي يتنازل أكثر فأكثر عن آخر ما يربطه بأرضه بعدما تنازل تقريباً عن كل ما يثربطه بأمته وبانتمائه القومي.
واختيار بيت الكتائب المركزي قرار مدروس جيداً: إنه ضرب لاحتمالات التحول إلى الاتجاه الصحيح وإرهاب لكل الذين يفكرون بمعاندة “القدر” الإسرائيلي، وليس فقط في هذا الحزب الذي يحاول منذ فترة إعادة صياغة نفسه وتوجهاته، وليس فقط في لبنان الذي حسم أمره واختار ما لا مناص من اختياره، الارتباط العضوي بسوريا، خصوصاً وهي الأقدر في مساعدته على تحرير المحتل من ترابه الوطني، لاسيما بعد تهالك معظم العرب على “السلام الإسرائيلي” بغير أن يهتموا بمصير “أشقائهم” المهددين في وجودهم ومستقبلهم.
إنه تفجير يستهدف دمشق بقدر ما يستهدف بيروت، وهو يستهدف أيضاً عمان التي لم تندفع إلى الحل المنفرد “نكاية” بالذين خذلوها وانفردوا مبتعدين عنها وعن دمشق وبيروت والقدس أيضاً.
لذا فهو تفجير سياسي كبير، استهدافاته سياسية والرد عليه يكون سياسياً، وليس أمنياً، ومن ضمن خطة مواجهة دقيقة وشاملة وليس بمزيد من العنتريات التافهة أو بمزيد من القمع لحساب الغير من الذين يستقوون على شعبهم ثم يزحفون إلى عدوهم صاغرين، بل ومتبرعين.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان