بعد “الضربة المسرحية” مع الأردن وما أحدثته من خلخلة في الموقف العربي الضعيف أصلاً، جاء دور لبنان “ليُضرب” وبالنار الإسرائيلية الحارقة، طالما بقي فيه من يقول بـ “التحرير” أو من يعمل لـ “التحرير” فعلاً.
هل هي مصادفة أن يتزامن إقدام إسرائيل على “قطع” المفاوضات مع لبنان، وسط أقسى حملة تهديد علني ومباشر، مع وقوف رئيس الحكومة الجديدة أمام المجلس النيابي الجديد لإعلان بيانه الوزاري وفيه تعهد بالعمل لـ “تحرير الأرض من الاحتلال” و”التصدي للاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان”؟!
ولولا شيء من قوة الذاكرة وقوة الواقع لافترض العالم أن لبنان هو الذي يحتل بعضاً من “أرض إسرائيل”، وإن الإسرائيليين إنما يستخدمون “الكلمات الكبيرة” بوصفهم “مناضلين” يسعون إلى تحرير “أرضهم” من “إاصبها” اللبناني…
لقد خلع منسق أنشطة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان أوري لوبراني ثياب الدبلوماسية وارتدى “الكاكي” وهو ينذر الوفد اللبناني المفاوض في واشنطن: “إذا لم يستتب الأمن والهدوء عندنا فلن يستتب الأمن والهدوء عندك، ولن تطاق الحياة في جانبك”!!
ولأن المفاوضات مطلب عربي يستطيع الإسرائيلي أن يهدد بقطعها في أي وقت وأن يفرض شروطه لاستئنافها، وربما كان بين هذه الشروط أن تلغى كلمات مثل “التحرير” و”الاحتلال” من القاموس لأنها تهدد “السلام” واستطراداً النظام العالمي الجديد!
ولأن الإسرائيلي أقوى من العرب مجتمعين، وهذه سياسة أميركية ثابتة لن يبدله “سقوط” جورج بوش و”انتصار” بيل كلينتون، فهو – ومن موقع القاهر والمحتل والغاصب – يستطيع أن يتهم ضحيته بالإرهاب،
بل إنه يطلب من ضحيته أن يتحول إلى حارس لسلامة إسرائيل وسلامة مواطنيها،
وهكذا فالخيار أمام اللبناني محدد: يكون “حارس حدود” للكيان الصهيوني، يذود عنه ويحميه من “الإرهابيين”، أو تتحول حياته إلى جحيم لا يطاق… ولا مغيث!
لعل الخيار أبأس من ذلك بكثير: المفاوضات أو الأرض، فإذا أصر على مطلبه في الأرض نسف الإسرائيلي المفاوضات، فخسر اللبناني على الجانبين،
وفي ظل الضعف العربي العام تكاد المفاوضات تصبح غاية في ذاتها، وتكاد تظهر وكأنها أغلى من الأرض، خصوصاً وإنها “الرباط” الأمتن مع “السيد” الأميركي.
وإذا كانت بعض العمليات الفدائية داخل الأرض اللبنانية المحتلة، والتي أسقطت بضعة قتلى من الجنود الإسرائيليين، قد أخرجت الوفد الإسرائيلي من قاعة المفاوضات الأميركية، فماذا تراه سيكون ثمن عودة هذا الوفد إلى تلك القاعة؟!
والثمن هنا مضاعف: أميركي بداية ثم إسرائيلي!
لقد بدا في لحظات وكأن لبنان يقف على شفا قطع المفاوضات، احتجاجالاً على سياسة الأرض المحروقة التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي فيه، ثم عدل بعد أن تلقى جملة من النصائح، ليست جميعها أميركية،
ها هو المحتل الإسرائيلي يلجأ الآن إلى هذا السلاح معززاً بالقوة والقدرة على الابتزاز وعلى الجانبين السياسي والأمني، الأميركي والعربي عموماً.
ومن السهل القول إن إسرائيل تحاول أن تبتز الحكومة الجديدة وأن تكشف عجزها عن المواجهة، وهي بعد في يومها الأول،
لكن الحقيقة إن هذا السلوك الإسرائيلي ليس جديداً، وإن كانت النبرة قد ارتفعت الآن بأكثر مما كانت عليه في سابق أيام المفاوضات على اللاشيء.
وما تشهد به محاضر الجلسات العديدة إن إسرائيل لم تباشر بعد فعل التفاوض مع لبنان.
إن الوفدين يجلسان متقابلين، ويطرح كل جانب وجهة نظره ومطالبه، فيرد الوفد الآخر بمطالبه المضادة، ثم يننتهي حوار الطرشان بموعد للقاء جديد،
ولم يعد المعيار كفاءة المفاوض في إحراز تقدم من دون التفريط بالأساسيات، وإنما بات المعيار كفاءته على الصمود والمماحكة واستثارة الطرف الآخر من دون أن يخرجه من القاعة.
وبعد “الضربة المسرحية” مع الأردن، التي فاقمت مخاطر الانهيار في الموقف الفلسطيني المتصدع، تركز الضغط على لبنان بحيث يتم تطويق سوريا وإرباكها.
إن المطلب الإسرائيلي من لبنان لم يتغير ولم يتبدل طوال سنة المفاوضات: إنهم يريدون معاهدة صلح منفرد، ومن دون أي حديث عن الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة.
إنهم يريدون من لبنان ما يريدونه من سائر العرب: الأرض والسلام معاً!
بل إنهم يريدون مع الأرض أن يتحول أهلها إلى حرس حدود للأرض العربية الأخرى التي يحتلها الإسرائيلي: فاللبناني يحرس الاحتلال الإسرائيلي في الأرض السورية، والأردني يحرس الاحتلال الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية، والمصري يحرس السلام الإسرائيلي المهيمن على الأرض العربية جمعاء!
وحديث إسرائيل عن “الدولة” في لبنان، أو “الحكومة المركزية القوية” لا يعني شيئاً آخر غير “حرس حدود” لبناني قادر ومؤهل لقمع اللبنانيين ومنعهم من العمل لتحرير أرضهم المحتلة بالقوة، طالما تعذر تحريرها بالوسائل الأخرى.
تسلم بالاحتلال وشروطه فتعطيك إسرائيل “السلام”، وتسمح بالتالي بقيام “دولتك” – الشرطي المكلفة بمهمة وحيدة هي حماية ذلك الاحتلال، أو ترفض فتحرق أرضك ويقتل الناس فيها ويمنع قيام “الدولة” عليها.
والتهديد الإسرائيلي الجديد – القديم ليس امتحاناً لحكومة تعرف إسرائيل إنها لن تستطيع الرد عليها عسكرياً كما لن تستطيع الاستجابة لشروطها السياسية،
إنه امتحان للعلاقات اللبنانية – السورية، ومحاولة أخرى لهزها وتصديعها، بحيث تصور المعاهدة مع سوريا وكأنها مصدر الحرب في حين أن “المعاهدة” مع إسرائيل هي مصدر “السلام” والأمن والاستقرار وإعادة الاعمار الخ!!
بلإنه امتحان لما تبقى من تماسك أو تضامن أو تنسيق بين الوفود العربية التي تفاوض – كل على حدة – العدو الإسرائيلي،
والرد الأوحد هو بمزيد من الصمود والتماسك، خصوصاً وإن المناورات الإسرائيلية وعمليات الابتزاز السياسية وكذلك الاعتداءات العسكرية، براً وبحراً وجواً، ستتزايد في “الوقت الضائع” بين الرئاستين الأميركيتين: الرئاسة التي جاءت بالعرب إلى طاولة المفاوضات، والثانية التي تعهدت بأن تعطي للإسرائيليين سلاماً مطلقاً فوق الأرض العربية تحت المظلة الأميركية.
ولا خيار… فلبنان لا يبتني الآن مشروع دولة جديدة، ولكنه يحاول أن يبتني مشروع وطن، ولا بد أن يدفع ثمنه من دمه!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان