… وقد لا يكون شعوراً بالذنب أو بالندم يستتبع إعلان التوبة، لكن المؤكد إن شعوراً متعاظماً بالإحباط وخيبة الأمل ووحشة الوحدة كان رفيق رحلة العودة إلى بر الشام التي أنجزها رئيس مصر قبل يومين.
ليست هي، عودة إلى بيت الطاعة،
لكنها ليست المتباهي بإنجازه أو المدعي سلامة موقفه بحيث لا يقبل نقداً أو عتاباً ويُجل نفسه عن المساءلة والحساب.
وقد لا تكون دمشق، بنهجها المغاير والمختلف تماماً، هي القدوة والمثل الأعلى، لكن الرئيس مبارك يتمتع بقدر من التواضع يجعله مستعداً لأن يناقش فيها ومعها سبل الخروج من المأزق الخانق.
لم يحن زمن التوبة بعد، فالكل خطاة وإن وجد الخلاف ففي الدرجة، لكن مصر العائدة إلى بر الشام متعبة إلى أقصى حد، مستنزفة القدرات مضيعة الإمكانات تستشعر نقصاً في دورها وهيبتها وكرامتها الوطنية، وتعاني من عقدة اضطهاد جدية مصدرها “العرب” قبل “الأصدقاء” الأميركيين والأعداء الإسرائيليين،
ويكاد حسني مبارك ينفجر غيظاً وألماً وهو يرى “العرب”، الذين يمتدحونه لأنه يحاول إنهاء عصر السادات، يعاملونه بأسوأ مما عاملوا به السادات ذاته،
لقد حاولوا رشوة السادات ببضعة مليارات حتى لا يذهب في زيارة العار إلى القدس المحتلة، واستمروا يتعاملون معه، بشكل ما، ويساعدونه، ولو سراً، وهو يعقد صفقة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي،
أما هو فلا أحد يمد له يد العون ليصمد أو ليحاول التحرر من إسار التركة الساداتية الثقيلة،
إنه لا يطلب مكافأة على وطنيته، ولكنه يطلب وبإلحاح مساعدة مصر حتى لا تبقى رهينة المساعدة الغذائية الأميركية ورهينة الديون الغربية المتوالدة فوائدها والمتزايدة أرصدتها كما الفطر، ومن بعد يمكن الحديث عن سياسة جديدة تجاه إسرائيل.
أكثر من هذا: إنه يكاد “يرقع بالصوت”، حسب التعبير المصري الدارج، شاكياً ظلم ذوي القربى الذي يكاد يبلغ حد التآمر على وحدة مصر الوطنية وسلامة نسيحها الاجتماعي،
ففي ظل التخلي العربي، ونتيجة لسياسة الاذلال “العربي” المنهجي لمصر، يعبث الأميركيون و”حلفاؤهم” من العرب، ومن ثم الإسرائيليون بمقدسات مصر وبثوابت اليقين في الوجدان الوطني المصري.
طبعاً هذا لا يعفي الحكم في مصر من مسؤولية القصور في مواجهة المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتمظهر الآن في ما يسمى “الفتنة الطائفية”.
كذلك فإن اتهام أطراف عربية بالتقصير أو التخلي والتواطؤ مع العدو (موضوعياً) لإبقاء مصر ضعيفة وعاجزة ومشلولة الإرادة واليد، لا يبرئ ساحة الحكم في مصر ولا يطمس حقائق ثابتة بينها إن هذا الحكم مخترق بمشبوهين ومتآمرين على سلامة مصر ووحدتها الوطنية،
لكن ما يجب أن يقال – صراحة – إن بعض الأنظمة العربية تعمل جنباً إلى جنب مع العدو الإسرائيلي لضرب هيبة الدولة المركزية في مصر، وتهديد وحدة شعبها التي كانت على الدوام مصدر عزة للمصريين وسائر العرب.
فالسلفي الممول من الجهات المعنية بنشر التخلف باسم الإسلام هو شريك كامل – موضوعياً – للعميل الإسرائيلي حامل الجنسية السويسرية أو النروجية والآتي باسم “الأصولية المسيحية” ليوزع أناجيل باللغة الإنكليزية على الفلاحين في دمياط وصيادي السمك في بحيرة قارون بالفيوم.
وهي مفارقة مؤلمة أن يكون المتآمرون على وحدة مصر الوطنية، من الحاكمين العرب، أنشط العاملين على إذلالها بمنع أي قدر من المساعدة عنها، ثم الشماتة بها وهي تقف على عتبة “الانكل سام” تشحذ منه رغيف العيش لشعبها فلا يعطيها إلا كفاف يومها ليذلها أكثر في الغد.
إن من يعمل لإبقاء مصر ضعيفة، وبغض النظر عن شخص حاكمها، ومحتاجة وتذلها حاجتها إلى الرغيف، هو هو العامل لتعميم كمب ديفيد وجعله صورة الغد الغربي، إن كان ثمة غد عربي واحد لهذه الأمة الت تمزق مكونات وحدتها أكثر، فأكثر مع كل طالع شمس.
إن هؤلاء “العربط هم الساداتيون الحقيقيون، وهم الذين يريدون إلغاء مصر ودورها بإجبار مبارك على أن يكون مجرد امتداد لعهد السادات وسياسته المدمرة.
وعودة مصر إلى بر الشام مصدر قوة للطرفين، من حيث المبدأ أو هي محاولة لوقف الانهيار العام، لاسيما في موقعي المواجهة مع العدو ومع الذات: أي في فلسطين وفي لبنان.
ومؤكد إن أبرز المستفيدين من هذه العودة، مبدئياً، هما: الانتفاضة المجيدة للشعب العربي في فلسطين، وحلم اللبنانيين باستعادة وحدتهم ومن ثم دولتهم العتيدة… لاسيما وإنهما كلاهما يستشعران اليتم ويعانيان من تخلي ذوي القربى، وهو أشد مضاضة من الظلم وحجب المساعدة والدعم الجدي.
أما أبرز المتضررين فهم “الساداتيون العرب” داخل مصر وخارجها، من ملوك السلفية إلى الاختراقات الإسرائيلية، إلى رموز الانفتاحية والنهب و”التهليب” باسم الدين أو باسم الفرعونية أو باسم الواقعية لا فرق…
والمعركة مفتوحة بعد على امتداد أرض مصر من طابا إلى السلوم، وهي تنادي المقاتلين وكل الذين كانوا ينتشون بنشيد “والله زمان يا سلاحي”،
فهل من مبارك، يا عرب التسعين؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان