لم نكن بحاجة إلى “مؤتمر الصناعة اللبنانية العام 2000 والتعاون الصناعي العربي والدولي” لنتحقق من أن المواطن في لبنان أكثر حيوية وأشجع مبادرة وأسلم تفكيراً من حكومته، وأنه يعوض قصورها وبلادتها وحولها الاقتصادي – الاجتماعي بالتصدي للمهمات الأكثر صعوبة والاستعداد لمواجهة التحديات الأعظم خطراً.
هذا لا يعني أن الصناعيين طابور من الملائكة مقابل الوزراء – الشياطين، ولكنه يعني أن هؤلاء الرجال – وبحسهم المصلحي المباشر وواقعيتهم – يهتمون بالشأن العام ويحاولون استشفاف المستقبل، في حين أن حكومة النهوض الاقتصادي قد غرقت في مستنقع الشركة العقارية والتشكيلات والتعيينات وتطوير النظام العالمي الجديد فأغفلت ما جاءت أصلاً لكي تهتم به أو ربما لكي تنجزه.
ودائماً كانت الدولة، في كل مكان، تاجراً فاشلاً وصناعياً رديئاً، ولكن حكومتنا الآتية باسم معجزة الإنقاذ قد انحازت فعلياً إلى التجار (ربما لأنهم أقرب إلى طبيعتها) على حساب الصناعة وإمكانات التقدم بها والتوسع فيها خصوصاً وإن الأسواق العربية أمامها بلا حدود، من حيث المبدأ.
في أي حال، فلا بد من تحية لهذه المغامرة التي تقدم عليها جمعية الصناعيين فتأخذنا ولو بالطموح إلى الغد بينما حرب أو حروب الأمس ما تزال تحاصر لبنان بآثار الدمار في عاصمته – القلب وببنيته التحتية المهشمة إضافة إلى كونها باتت متخلفة، في حين أن المواطن يجهد ليستعيد توازنه النفسي تحت ضغوط الأعباء المعيشية المنهكة.
ليس أبهى من أن تتحدى بإرادتك وبذراعك وليس فقط بأحلامك الخراب والموت وسرطان الانعزال والتقوقع بذرائع سياسية أو طائفية أو فئوية أي قطاعية.
على أن الأخطر من الانعزال والانفصالية هو هذا التوجه المدمر نحو استبدال الشقيق بالعدو، أو التحالف مع العدو ضد الشقيق، أو تسخير الذات كحصان طروادة أو كقناع للعدو لكي يخترق الجسد العربي كله من النخاع الشوكي إلى أخمص القدم.
وحسناً فعل رئيس الجمهورية حين خرج على نص خطابه ليرد ولو بشكل مبتسر على التوجهات الخطرة التي تضمنها خطاب وزير الصناعة وممثل ولي عهد الأردن الدكتور بسام الساكت.
للمناسبة: قبل أسابيع قليلة، وخلال زيارة قام بها وفد من جمعية الصناعيين إلى عمان، كانوا سمعوا من الأمير الحسن نفسه منطقاً مناقصاً بالمطلق لمنطق التطبيع الذي نادى به ممثله أمس في بيروت، وإن استخدم للتمويه حيلة الدعوة إلى تفهم روح العصر واستيعاب روح التغيير وتقبل التحولات التي جاء بها النظام العالمي الجديد!
لقد نطق الساكت، الآتي مباشرة بعد حفل توقيع الاتفاق (الحل المنفرد) الإسرائيلي – الأردني فقال: “إن من يخاف من التغيير سواء التغيير الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي فإنه في الحقيقة بمثابة من يفكر قدميه، أي أنه يهرب من مواجهة الأحداث والتغيير، والأصل هو التفحص والملاءمة والاستعداد”.
“… ومؤتمر الممولين الذي عقد مؤخراً في واشنطن (لتأمين الغطاء الاقتصادي للصلح المنفرد الإسرائيلي – الفلسطيني – اتفاق غزة – أريحا) أبرز مدى اهتمام العالم بتطوير اقتصاديات المناطق المحتلة من فلسطين (؟!!) كجزء من عملية السلام. والدول العربية تتطلع للحصول على مساعدات ودعم مالي لعملية السلام والالتزامات المترتبة عليها سياسياَ واقتصادياً…”.
لكأن العرب يعرضون بلادهم في سوق النخاسة طلباً لشيء من المال، هذا مع الإشارة إلى أن الممولين جاءوا بمذكرات جلب أميركية ومن أجل إسرائيل وليس فلسطين، وأن “السلام” على الأقل بالصيغة التي فرضت على العرب حتى الآن يأخذ منهم مع الأرض الكرامة والإرادة والمياه والموارد الطبيعية والثروة ولن يأتيهم بالمال… وهذه مصر كامب ديفيد شاهدة وشهيد…
لهذا كان ضرورياً أن يرد أحد على منطق الحل المنفرد الأردني، الممهد للتطبيع والمبشر به، ومن موقع قومي وليس انعزالياً، فكانت كلمات الياس الهراوي القليلة وافية تماماً بالغرض، إذ قال: “نحن يا معالي الوزير الصديق لم نهرب إلى الأمام. نحن نتعهد أمام الله والعروبة إننا دخلنا المفاوضات من الباب الواسع، ولا يظنن أحد إننا سنخرج من النافذة…
“أود أن أقول نعم، أنا مع السوق العربية المشتركة، ولكن خوفي أن يأتي وقت نكون فيه مطية للتكنولوجيا التي تكلمت عنها. معاذ الله في ذلك. وآمل بكلماتك ومنها آمل للمستقبل أن نبقي يداً واحداً وأن لا نتفرق لأننا بالفعل نحن قوة صناعية ومالية إذا كنا سوية، وإذا ما تفرقنا لن تعود هناك أية إمكانية، وهكذا نكون قد هربنا إلى الأمام…”.
ونفترض أن كلام الساكت (أو بالأحرى تبدل المنطق الرسمي الأردني، ما بين طرفة عين وانتباهتها) قد خيب أمل رئيس جمعية الصناعيين جاك صراف ومعه آمال كثير ممن تنبهوا لمخاطر “الحلف” الإسرائيلي مع “الفلسطينيين”، فافترضوا أن الرد العملي يمكن أن يكون بنوع من الوحدة الاقتصادية الثلاثية (لبنان – سوريا – الأردن)…
وانطلاقاً من ذلك الافتراض قال صراف في خطابه:
“إننا نعتقد جازمين بأن الانفتاح والشمولية والترابط بين كافة الدول العربية بشكل عام، وبين سوريا والأردن ولبنان بشكل خاص، هي الأدوات الاستراتيجية التي سوف تمكننا من الجهوزية الفضلى لمواجهة المرحلة الدقيقة المقبلة.
فبالشمولية نستغل الطاقة، وبالانفتاح نخلق الإمكانات، وبالترابط نهيئ للمستقبل”…
ومن أسف، فمع الانهيارات المتوالية، ما تم منها وما هو متوقع في هذا المدى العربي المفتوح كالمشاع أو السديم، لم يتبق غير لبنان وسوريا.
فهل نبدأ بخطوة واحدة، في اتجاه تشكيل النواة الصلبة التي يمكن أن تكون مركز جذب واستقطاب، وليس مجرد حصن للصمود؟
فليس وارداً أن نفترض أن اللبنانيين والسوريين يحتكرون الوطنية والعروبة والتصدي للمشروع الإمبراطوري الإسرائيلي.
حتى لو أخذت موجة الانحراف العالية العديد من القيادات العربية فلا يبقى في الأرض إلا من هو مرتبط بالأرض ومن يبدأ بالأرض ويمتد معها يحميها وتحميه يكبر بها وتعطيه حتى تغنيه من استجداء المال باسم “السلام” في حين أنه “تعويض شرف” تافة عن الاستسلام بغير قيد أو شرط.
المهم أن تكون هذه المبادرة لجمعية الصناعيين خطوة لها ما بعدها.
والجواب مطلوب أولاً وأساساً من الأشقاء السوريين، لكي لا تذوب الأماني في الخواء والبيروقراطية فتصير أوهاماً وأحلام يقظة، بل تتحول إلى قرارات ومن ثم إلى مؤسسات تؤكد الحد الأدنى من قدرتنا وتبشر بواقعية مضادة لواقعية الاستسلام: واقعية الرد على التحدي بتوكيد الجدارة والأهلية لدخول العصر وصدق الانتماء إلى الأمة وأرضها المقدسة.
إن هذا المؤتمر مرشح لأن ينتقل بنا من الموقع الدفاعي الضعيف، في وجه التطبيع، إلى الموقع الهجومي القومي، إذا كان خطوة أولى على الطريق الصحيح.
وعسى ألا تتأخر الخطوة الثانية كثيراً، لأن التطبيع يسبق التوقيع في العديد من عواصم العجز العربي وأنظمتها طويلة العمر!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان