تتوالد المفارقات السياسية، في كل لحظة، كالفطر، وتفرض نفسها عليك، فتكاد تفقد المنطق وتعجز عن الفهم، خصوصاً لمن لا يتقن فن الربط بين النتيجة والسبب أو يصر على الربط بين الغاية والوسيلة.
بين المفارقات التي توالت علينا خلال الساعات القليلة الماضية:
1 – توقيع الاتفاق الأمني بين لبنان وسوريا، أمس، في شتورة، وإعلان وزير الدفاع الكويتي اعتزامه السفر قريباً إلى واشنطن للتوقيع على اتفاق أمني بين الكويت والولايات المتحدة الأميركية قد يستكمل باتفاقين مماثلين بين الكويت وكل من بريطانيا وفرنسا.
2 – اعتبار الاتفاق الأمني (اللبناني – السوري) تحصيناً لمسيرة السلام والوفاق في لبنان، بينما تتردد في الأجواء أصداء الحملة العنيفة التي شنها على الحكم بعض أبرز أطرافه (جنبلاط وبري) في مهرجان النبطية والتي أنتجت – مبدئياً – أزمة سياسية تصدع الحكم وتهدد المسيرة وتخلق مزيداً من الصعوبات التي تؤثر على صورة الحاضر والمستقبل في هذا البلد المثخن بالجراح والذي لما يجد ما يطمئنه إلى غده، اقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي إلى تجذر الحل والسلام الوطني فيه.
3 – هذه الغربة العربية عن العصر، والسير في عكس التاريخ إذ يتزايد العرب تفككاً ويفتقدون المركز والرابط القومي ويتدرجون نزولاً من العروبة إلى الكيانية فإلى الطائفية والمذهبية، ويرتدون متجاوزين الدين إلى الجاهلية بالعشائرية والقبلية فيها، هذا في حين أن “عدوهم” القومي والحضاري يصبح علناً وبلا مواربة “المرجع الصالح” والمسؤول عن يهود العالم أجمع، ويمد يده ليتدخل في الشؤون الداخلية ليوغوسلافيا بعد الاتحاد السوفياتي واثيوبيا.
… أي أن حدود “المركز” الدينية والقومية تتماهى حتى تضمحل تماماً مما يمكن إسرائيل من تجاوز الدول والحكومات والعاصر لكي تستقدم المستوطنين الجدد إلى الأرض العربية المحتلة، عشية الدعوة لـ “مؤتمر السلام” تلبية لمبادرة بوش وخطة بيكر لتسوية ما يسمى “أزمة الشرق الأوسط”.
مفارقة عربية
مرة أخرى يقدم الحكم العراقي، برعونته، الذريعة لاستقدام الأجنبي والتمكين لبقائه وترير هذا “الاحتلال” العسكري المباشر تحت لافتة “التحرير” للأرض العربية من … غزاتها “العرب”!!
فلقد جاء الاعلان عن معاهدة الحماية، أو “الاتفاق الأمني” الذي ستعقده الكويت مع الولايات المتحدة الأميركية، لاحقاً لعملية الغزو الجديدة التي نظمها الحكم العراقي لجزيرة بوبيان، والتي اضطر إلى التنصل منها في ما بعد فاعتبر “جنوده” مجموعات من المهربين!!
ومع إن المعاهدة خطأ سياسي إلا أن مرتكبيها يبررون فعلتهم بخطأ سياسي أشنع… وهكذا تتكرر المأساة العربية: العجز عن ردع المعتدي مما يسوغ للمعتدى عليه أن يستعين، لحماية رأسه، حتى بالشيطان!!
وكما أسقط “مشروع الحل العربي” لخطأ إقدام صدام حسين على اجتياح الكويت قبل سنة وشهر، فقد أسقط مشروع الحماية العربية للكويت على قاعدة اتفاق دمشق، ولم يقبل المنطق القائل باعتبار مصر وسوريا (مع أقطار الجزيرة والخليج) نواة للقوة القادرة على توفير أسباب الحماية والأمان للكويتيين من رعونة الحاكم العراقي… خصوصاً وإنه ما فتئ يؤكد التزامه بسياسته إياها برغم كل ما أصاب العراق والأمة نتيجة لخطأه الشنيع في مطلع آب 1990.
المفارقة تكمن في مدى الاختلاف بين مسلك سوريا في لبنان ومسلك الحكم العراقي تجاه الكويت: فبينما يوقع الحكم اللبناني اتفاقاً أمنياً مع دمشق لضمان “السلام الوطني” و”الوفاق الوطني” الداخلي، يلجأ الكويتي إلى الأميركي فيطلب إليه حماية سلامه “الوطني” من “أخيه العراقي”!!
ومع أن الخطأ لا يبرر الخطأ، فإن الحكم العراقي يجتهد كل يوم في توفير المبررات للكويتي كي يطلب الحماية الأميركية، وتوفير الذرائع لتدخل الأميركي في شؤون الخليج عموماً وصولاً إلى العراق ذاته الواقع بعض جنوبه وبعض شماله تحت الاحتلال، والواقع كله في أسر الطغيان.
لقد حققت سوريا في لبنان موقفاً ممتازاً، واضطر الجميع – من محبي سياستها أو كارهيها – إلى التسليم بدورها والتوجه إليها طلباً لمساعدتها في توطيد السلام ورعاية الوفاق الوطني، مقررين أن الدور السوري ضرورة وأنها ضمانة فعلية لانتهاء الحرب الأهلية،
أما الحكم العراقي فقد دفع، بمسلكه المنافي للقومية وللأخوة وللحكمة، الكويتيين إلى التبرؤ من “عروبتهم” والتدافع للتوقيع على طلب حماية أميركية تتمنع واشنطن عن توقيعها حتى الساعة.
والمفارقة إن استقلال الكويت لم يعمّر أكثر من ثلاثين سنة، وإنها لكي “تؤمنه” تجاه الحكم العراقي ترهنه لدى “الأميركي” الذي حل الآن محل الاستعمار القديم الذين أسبغ “حمايته” طويلاً على الكويت ونفطها الغزير.
أما وحدة الكيان السياسي اللبناني فلم تعمّر أكثر من أربعين سنة، ولكي تستمر فقد اكتشف اللبنانيون أن موافقة سوريا شرط حياة فسلموا بها لكن يستنقذوا تلك الوحدة التي كاد يذهب بها طوفان الدم وأطماع أمراء الحرب الأهلية… في الداخل والخارج.
على مَ يتفلقون إذن؟
ليس الخطر أن يعارض وزير الحكم الذي يشكل طرفاً فيه،
وليس جديداً في لبنان أن يعلن المسؤولون استقالاتهم على الهواء، وأن يقدموها “للشعب” مباشرة وبلا وسيط،
إنما مصدر الخطر في الأجواء المسمومة التي واكبت هذه الأزمة السياسية الجديدة التي تعصف بالحكم، المصدّعة صفوفه أصلاً، والتي تنتمي إلى الحرب الأهلية وليس إلى عصر السلام الآتي… باسم الطائف!!
الخطر أن تخرج “الأزمة” من إطارها السياسي لتصوّر وكأنها خلاف جوهري، وفي قضية كبرى، بين طائفة وأخرى، أو بين طائفة والطوائف الأخرى، لأن ذلك يهدد السلامة الوطنية والبناء الذي ما زال هشاً للوفاق الوطني الذي أعطي اسم “الجمهورية الثانية”.
الخطر أن يبدو وكأن أهل الحكم (ومن ثم من يمثلون) يختلفون حول قضية وطنية كمصير الإمام موسى الصدر.
فموسى الصدر لم يكن، بالمطلق، مذهبياً، حتى وهو ينصب رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي ال‘لى، كما أنه لم يكن طائفياً يمكن احتسابه على المسلمين فقط، وإن كان بموقعه وبرتبته الدينية وبالعمامة السوداء يرمز إلى آل بيت الرسول العربي، وينتمي بنسبه إليهم مباشرة.
وبالتأكيد فإن اللبنانيين جميعاً، على اختلاف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم، معنيون بمصير الإمام الصدر،
بل إن الأكثرية الساحقة من العرب معنية بمصير هذا العلامة والقائد الديني – الفكري – السياسي المستنير، الذي نجح في أن يقدم نفسه وباستمرار كعامل توحيد وداعية للعدل والسلام الوطني وتماسك المجتمع بحيث لا يخترق العدو نسيجه الداخلي.
حتى عندما أسس موسى الصدر “أفواج المقاومة اللبنانية” – حركة “أمل” – لم يتحزب لها، ولم يحصر نفسه أو دعوته فيها، ولم يعتبرها البديل عن القوى جميعاً أو أداة التحرير الوحيدة، بل لعله رعاها كمساهمة مباشرة في الجهد الوطني والقومي في العام في تحصين الشعب والأرض في وجه العدو الإسرائيلي.
لعله كان يريد أن يعوّض غياب الدولة عن مسرح المقاومة والكفاح المسلح، وتعطيل جيشها في مهام تخدم لعبة الحكم ولا تفيد في تحرير المحكوم.
والخطورة أن تتخذ الأزمة من اسم موسى الصدر أو من قضية غموض مصيره ورفيقيه عنواناً لها فيتهشم الحكم الذي قام بالوسم الوفاق الوطني وتنهار الحكومة التي تم تشكيلها بذريعة المصالحة الوطنية.
أيتفقون على الموقف من سمير جعجع وميشال عون ويختلفون على موسى الصدر، تقول العامة؟!
بل على ماذا يمكن أن يتفق هؤلاء الذين يمكن أن يختلفوا، ولو في الأداء السياسي اليومي، على قضية كموسى الصدر؟!
لقد تعوّد الناس على ضعف الحكم، وركاكة ممارساته، وارتباكه في مواجهة المهام التي لا يمكن أن يقوم بها إلا “الكبار” بينما هو منهمك في تأمين المنافع والمصالح “الحيوية”،
وتعوّد الناس، بالتالي، على ظهور معارضات في قلب الحكم، خصوصاً وإن دسته كبير ويتسع للعشرات من كل شكل ولون.
بل لقد تسلى الناس ردحاً من الزمن بهذا الحكم وهو يعارض بعضه البعض، فيريحهم من عبء المعارضة (الجدية) وأكلافها الباهظة/
ولأن الحكم مثل “مسبحة الدرويش” فالجميع فيه، وإن كان لا يختزلهم، والجميع منه، وإن كانوا لا يقرون بأنه يمثلهم ويعبر عنهم تماماً. إنه خلطة من الألوان، ولكنه ليس “لوحة” لها روحها وجماليتها وإنسيابيتها وتناغم الألوان فيها. وهو مجموعة من الموسيقيين، فيهم الهاوي وفيهم المحترف، ولكنه ليس أوركسترا… بل إن كلاً يغني على ليلاه، فعلاً لا مجازاً، ولو إن هذه الفوضى من الألحان تناسقت لاكستبت أو استولدت جمهوراً من بين الهائمين على وجوههم يبحثون عن راية وقيادة وقضية.
أما أن يصل الخلاف إلى الجوهر فهذا أخطر من أن ينظر إليه كأزمة سياسية عارضة بين بناة “الجمهورية الثانية”.
إن خلافاً بهذه الجدية، إن وقع، ينفي وجود الجمهورية ذاتها.
وليس سهلاً على المواطن أن يصدق إن الياس الهراوي وعمر كرامي ونبيه بري ووليد جنبلاط (الذين قد لا يتفقون على أية مسألة تتصل بالحكم) يمكن أن يختلفوا في توصيف جريمة إخفاء موسى الصدر ورفيقيه، أ, في المطالبة بكشف الغموض وفك الألغاز والأسرار المحيطة بقضية العصر هذه.
ومع الوعي الكامل بأن مناخ الحرب الأهلية ولغتها وخطابها السياسي وتقاليدها لم تسقط تماماً بعد، فقد كان الأمل بأن تكون مؤسسة الحكم هي المعبر إلى الصراع الديمقراطي وإلى اللعبة السياسية الطبيعية، لا أن تهشم هذه المؤسسة (وبأيدي أطرافها ذاتها) فتعجز بالتالي عن استيعاب هموم العباد وعن قيادة البلاد وتحرير المحتل من أرضها وتحقيق الحد الأدنى من طموحات اللبنانيين.
إن موسى الصدر في ضمير كل عربي، وكل مؤمن، وليس ثمة مجال لأن يحتكره أحد أو يحصر لنفسه حق المطالبة بكشف الغموض المحيط بمصيره ورفيقيه.
إن لكل لبناني، بداية، حق الادعاء الشخصي في قضية موسى الصدر، الرجل الذي عرفه تقريباً كل اللبنانيين، وعرفهم جميعاً في مدنهم وقراهم ودساكرهم، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أعلى الجبال إلى آخر المدى في بقاع الخير.
وهذا الاتفاق القائم فعلاً على موسى الصدر، بشخصه ثم بقضيته، هو الذي يؤكد المكانة المتميزة للإمام الغائب ويجعله عامل توحيد إضافياً بين المختلفين في أديانهم ومذاهبهم ومعتقداتهم وأفكارهم السياسية، ويضفي على إخفائه طابع الحرب على ما يجمع بين الناس، ويحدد بالتالي هوية المستفيد من هذه الجريمة النكراء.
تداعيات
جمهوريات الاتحاد السوفياتي تنفصل سعياً إلى الاستقلال عن “المركز” الذي لم يعد كعبة الشيوعية الدولية وعاصمة الثورة الاشتراكية الكبرى.
الاتحاد ذو القاعدة العقائدية، مبدئياً، يتفكك ويعود على عناصره الأولى أي إلى “القوميات” التي توفر السند الاثني أو الوطني للكيانات السياسية (الجديدة).
في موسم صعود القوميات تتراجع حتى لتكاد تضمحل الحركة القومية العربية. وتتفاقم نزعة التفتت والتصاغر في المجتمع العربي، الذي لما تتأكد وحدته.
هناك تعود القومية على حساب الاشتراكية وفشل نظامها السياسي،
أما العرب فيعودون إلى عصر ما قبل القومية بل وحتى ما قبل الدين. فحين يصبح الدين حزباً من الأحزاب وليس الإطار الموحد وطريق الهداية إلى الصراع المستقيم وإلى المنعة والعزة والتماسك الاجتماعي، يكون ذلك دليلاً على أن المجتمع في تراجع نحو الجاهلية.
*بعد “استقلال” الجمهوريات لت يتبقى من الاتحاد السوفياتي إلا اسمه، حتى إشعار آخر.
لهذا فإن ميخائيل غورباتشوف هو الرئيس الاسمي، فكيف يكون رئيساً للاتحاد ولا اتحاد؟!
*غريب أمر يلتسين: كيف استطاع الجمع بين “الشوفينية” والاعجاب بالصهيونية وإسرائيل، في حين إن النزعة القومية الروسية لا تكن كثيراً من الحب لليهود عموماً؟!
للمناسبة: بين مستشاري يلتسين عدد لا يستهان به من اليهود، وهو – حسب عارفيه – أجهل روسي بالعرب، كل العرب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان