قاتلت المارونية السياسية ضد مبدأ الاصلاح، وضد مشاريعه المختلفة، بكل الأسلحة لاتي توافرت لهاز
قاتلت ، بداية، بالسياسة، فطالما إنها تتحكم بالمجالس النيابية ومن ثم بالحكومات فلماذا اللجوء إلى السلاح؟!
ثم قاتلت بالطوائف: شبكت كل طائفة بالأخرى، وأخرجت نفسها من ساحة النزال والمواجهة تحت شعار “اتفقوا في ما بينكم أولاً، ثم تعالوا نتفاهم على إعادة توزيع الحصص”.
لم يكن الأمر قاصراً على المسلمين، بل هو شمل الطوائف المسيحية جميعاً وأبرزها الأرثوذكس فالكاثوليك انتهاء بسائر الأقليات،
مع الهزيمة العربية الثانية في 5 حزيران 1967 انتقلت المارونية السياسية إلى الهجوم، فشكل ثلاثة من أقطابها هم كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده “الحلف الثلاثي” بذريعة معارضة حكم العسكر وديكتاتورية ضباط الشعبة الثانية.
كان كل من هؤلاء الأقطاب “يملك” حزباً سياسياً في الظاهر، لكن واحداً منهم فقط كان يُعد، ومنذ منتصف الثلاثينات، ليكون قائد الجيش الرديف، جيش الطائفة، بحيث يكمل ما يعجز عنه أو ما ينفر من تنفيذه جيش دولة الطائفة، أي الجيش الرسمي،
وبحسب اعتراف الشيخ أمين الجميل فإن تحويل حزب الكتائب إلى قوة عسكرية مقاتلة، والمباشرة بالتدريبات على نطاق واسع، وتخزين السلاح والذخيرة، قد بدأت فعلياً في العام ذاته 1968.
قبل ذلك كان كميل شمعون قد استعان بالكتائبيين كقوة عسكرية مضمونة الولاء في تشكيل شبه رسمي أنشأه ورعاه وسلحه في العام 1958 تحت اسم “الأنصار”، وجعله رقيباً على القوى العسكرية النظامية من جيش ودرك لضمان ولائها أو للوشاية بمن يرفع راية التمرد ويحاول الالتحاق بصفوف “الثورة” المناهضة لحكمه آنذاك.
في 1958 كانت الحجة: حماية الشرعية!!
وفي 1968، كانت الحجة: حماية الديموقراطية!
أما بعدها “خان” العماد إميل بستاني الطائفة العظمى وعقد “اتفاق القاهرة” مع المقاومة الفلسطينية في العام 1969، كان لا بد من التسريع باستيلاء جيش الطائفة إعداده حتى لا تؤخذ المارونية السياسية على حين غرة فتضطر إلى التسليم بالاصلاح، ولو بحده الأدنى.
وهكذا دخلت الطائفة الحرب الأهلية ابتداء من العام 1975 بجيشها الخاص، جيش الحلف الثلاثي إياه، ميليشيا الكتائب وميليشيا حزب شمعون التي اتخذت من اسم والده لقبها “النمور”!
كان الكتائبيون يقاتلون وظهرهم محمي بالجيش الشرعي، الذي كان “يفرز” الضباط لتدريب أفراد الميليشيا ويتقاسم معهم السلاح والذخيرة والمواقع وينفذ العمليات التي يعجزون عن القيام بها، ويعمل بشكل عام ضمن خططهم،
وحين برز بشير الجمل كقائد مؤهل وأزاح من طريقه من هو أحق منه من القيادات الحزبية، السياسية والعسكرية، حدث التطور الخطير إذا أخضع “الباش” الجيش كما سائر أجهزة الدولة لسلطانه،
انتهى الالتباس وسقطت الازدواجية وتوحدت قيادة المارونية السياسية في شخص بشير الجميل “الوعد” أو “الحلم” أو “المخلص” الذي طال انتظاره،
انزوى البطريرك الماروني في الكنيسة يصلي مخلياً المجال للرهبانيات التي “تعسكرت” وتعهدت بالرعاية والتمويل مشروع تجديد هيمنة الطائفة العظمى على البلادن متمثلة بدور رجال الدين اليهود في خدمة المشروع الصهيوني،
وليست مصادفة إنه في فترة العسكرة هذه تولى “الامرة” في الرهبانيات رجلان متطرفان وواضحاً الصلة بالعدو الإسرائيلي هما الآباتي شربل قسيس فالآباتي بولس نعمان.
أما الرئيس الراحل الياس سركيس فقد حاول ثم شدته وهدة اليأس فاستسلم تاركاً بشير الجميل يغتصب الدولة كلياً وصولاً إلى “الشرعية” المقدسة.
حتى كميل شمعون لم يجد مناصاً من التسليم، فعض على جرح “الصفرا” والتقى “البطل” مسامحاً وواضعاً نفسه بالتصرف،
ومع “انتخاب” بشير الجميل رئيساً للجمهورية، بحماية الدبابة الإسرائيلية القاهرة للإرادة العربية وللإرادة الوطنية المحاصرة في بيروت المحتلة، تمت السيطرة الكاملة على الدولة، وتوحد الجيشان، جيش دولة الطائفة وجيش الطائفة الذي بات يحمل اسم “القوات اللبنانية” تحت قيادة “المخلص الشاب”.
رحل بشير الجميل وحملت الظروف ذاتها شقيقه أمين إلى الرئاسة مسبغة عليه “شرعية” ما،
واحتاج الأمر إلى حروب عدة قبل أن يتم الاعتراف بشرعية أمين الجميل بعد إسقاط اتفاق 17 أيار، وعبر مؤتمر لوزان الذي انعقد قبل خمس سنوات من اليوم،
لكن هذه “الشرعية” لم تعمر طويلاً، إذ بعد بضعة شهور فقط انفجر الخلاف عنيفاً بين أمين الجميل وبين “حكومة الوحدة الوطنية” التي إنما شكلت لتحقق الحد الأدنى من الاصلاح السياسي، ثم عجزت عن تحقيق المطلوب لأنها ووجهت بالنتائج السياسية المتبقية للغزو الإسرائيلي الذي كان قد انحسر عكسرياً ، محتفظاً بنقاط ضغط وأوراق ابتزاز تجعله ، وباستمرار، طرفاً في المعادلة السياسية اللبنانية.
ولقد انتهى أمين الجميل أبأس نهاية يمكن تخيلها: مقاطعأً من حكومة “الوحدة الوطنية” التي كانت قد انهارت قبل ذلك فتم ترميمها لتعذر التبديل، ومقاطعاً من المجلس النيابي المجدد لنفسه باستمرار لتعذر الانتخاب، ومقاطعاً من أكثرية الشعب اللبناني بالمسلمين من أبنائه والمسيحيين.
وقام الرئيس – البلهلوان بآخر مسرحية فقفز في يومه الأخير إلى دمشق لعله يصلح ما أفسده عهده الطويل بمآسيه، لكن القفزة أبقته في الهواء إذ خسر من تبقى من مناصريه داخل حزبه وبيئته، أي داخل الطائفة العظمى، من دون أن يكسب دمشق أو اياً من خصومه المحليين وما أكثرهمز
هذا العرض التاريخي المكثف يهدف إلى التذكير ببعض الحقائق التي كادت أن تضيع تحت ضغط “حرب الجنرال” التحريرية،
*أولى تلك الحقائق : – إن الآثار السياسية للغزو العسكري الإسرائيلي للبنان في العام 1982 ما زالت قائمة وفاعلة وخطيرة التأثير على مجريات الحياة السياسية في لبنان وفي المحيط العربي، بدءاً بسوريا التي استدفها الغزو كهدف ثان بعد المقاومة الفلسطينية.
وإذا كانت سوريا وفصائل العمل الوطني في لبنان قد حققت نصراً كبيراً بإسقاط اتفاق 17 ايار، فإن ترجمة النصر إلى مكاسب سياسية مباشرة للمواطن اللبناني، عن طريق الاصلاح لم تتم لألف سبب وسبب، لعل بينها تركيبة هذه الفصائل.
*ثانية تلك الحقئق: إن ميشال عون ابن “شرعي” لتلك المرحلة، بمقدماتها جميعاً وأبرزها الحرب الأهلية التي فجرها حزب الكتائب (الذراع العسكرية للحلف الثلاثي) في مثصل هذا اليوم قبل أربعة عشر عاماً بالتمام والكمالز
لم يكن ميشال عون فقط أحد الضباط الذين فرزتهم القيادة لتدريب ميليشيات بشير الجيمل، بل هو قد نقل نفسه من جيش دولة الطائفة إلى جيش الطائفة، وعمل تحت إمرة بشير شخصياً، مما أهله من بعد لأن يكون مرشح “القوات” الوحيد لقيادة الجيش “الشرعي” كما قال أمين الجميل في لوزان.
ثم إن ميشال عون كان أحد عناصر “التنظيم” برئاسة المحامي جورج عدوان، الذي يحاور الآن وضمن وفد “الجبهة اللبنانية” اللجنة العربية للاتصال والمساعي الحميدة في الكويت… وكم من الجرائم والعمليات الخاصة نسفا واغتيالا وتصفية تربط بهذا “التنظيم” أو ينسب تنفيذها إلى رجاله الأكفاء (!!) وبينهم “الضابط الصغير”!
*ثالثة تلك الحقائق : إن “شرعية” ميشال عون المستمدة من ربع الساعة الأخير “لشرعية” أمين الجميل المطعون فيها أصلاً، يجب أن تكون، على الأقل، موضوع نقاش.
وليس من قبيل التشهير أن نذكر بأن الذين استمروا “يعترفون” بشرعية أمين الجميل حتى اللحظة الأخيرة من ولايته، هم بالذات، الذين شنوا حملة عسكرية لاقتلاع أمين الجميل من خريطة الحياة السياسية في “الشرقية”، فاحتلوا “ثكناته” وصادروا أسلحته ، وروعوا أسرته، ووضعوا اليد على “أملاكه” التي اعتبروها مسروقات ومنهوبات (وهم لم يعيدوها في أي حال إلى الدولة)… ثم “نصحوه” بمغادرة البلاد، وليس إلا بعد كثير من الوساطات حتى سمحوا لأسرته بالالتحاق به في “المنفى”… الأميركي!!
أي إن مصدر “شرعية” ميشال عون كان هدف “انقلابه” العسكري الذي نفذه بالتحالف مع الجيش الآخر “القوات اللبنانية”.
وها هو ميشال عون يستعيد ، كاريكاتورياً، دور بشير الجميل المجسد في شخصه وطموحاته الطائفة العظمى! الموحد جيشيها، والمقاتل باسمها ضد الاصلاح بشعار “التحرير”!
لكن رموز الطائفة العظمى جميعاً لهم اعتراضاتهم على “الضابط الصغير” وإن كانوا يحرصون على عدم إعلانها، ويكتفون فقط بحجب التأييد المباشر لتصرفاته وخطواته الرعناء.
من البطريرك الماروني إلى النواب والسياسيين إلى “جيش الطائفة” وحكيمه، إلى أهل الرأي ، كلهم يرى فيه خطراً على الطائفة ومصالحها، لكنه لا ينكر عليه “شرعيته”!
أي إن البلاد قسمان الآن أقلية تسلم بشرعية عون وتنكر عليه أهليته، وأكثرية ساحقة تنكر عليه الشرعية والأهلية معاً.
*رابعة تلك الحقائق : إن الدول جميعاً قد اضطرت إلى التسليم بوجود ميشال عون في القصر الجمهوري كأمر واقع، لكن أياً منها (فيما عدا عراق صدام حسين) لم يتعامل معه كرئيس أو حتى كوكيل للشرعية.
ولقد زلت قدم فرنسا ثم سرعان ما استعادت وعيها فصححت الخطأ الفظيع الذي وقعت فيه، ساحبة من التداول حكاية التدويل التي كان يراهن عليها “الضابط الصغير” لعلها تعوضه شرعية مفتقدة.
*خامسة تلك الحقائق إن حرب الجنرال قد أسقطت “الشرعية” عن الجيشين معاً، جيش دولة الطائفة الذي يقاتل به شعبها الآن، وجيش الطائفة الذي جعله في المؤخرة.
لقد وحد ميشال عون “الجيشين” فعلاً ، منهياً أسطورة الجيش كمؤسسة توحيدية،
فالجيش الذي لم يقاتل إلا مواطنيه، في بيروت والضاحية والجبل، ومن قبل في الجنوب والبقاع والشمال، ليس جيشاً للشرعية ولا هو جيش الوطن المرتجى.
والجيش الضائعة الحدود بينه وبين حزب الكتائب ثم “القوات اللبنانية” أو أية ميليشيا أخرى، ليس جيش الوطن،
فحصيلة جمع جيوش الطوائف لا تصنع جيشاً للوطن والمواطن.
*سادسة تلك الحقائق إن الطائفة العظمى مطالبة بموقف جدي من كل هذا الذي جرى ويجري.
هل انتهى الغزو الإسرائيلي وآن الأوان لمسح آثاره العسكرية ، وأساساً السياسية، إضافة إلى الاجتماعية والاقتصادية، أم ترى ما زال بإمكان بعض المغامرين المضي في الرهان عليه وسط صمت القيادات الدينية والسياسية والفكرية في الطائفة العظمى!!
هل انتهى زمن اغتصاب الشرعية، بأي سلاح، وبالاتكاء على أية دبابة أجنبية، باسم الحرص على الامتيازات، على حساب كرامة الوطن وحقوق الإنسان اللبناني الآخر؟!
هل انتهى زمن دولة الطائفة ، وحان الحين لإقامة دولة كل اللبنانيين،
واستطراداً هل اقتربنا من عهد دولة لبنان كله: باللبنانيين جميعاً، وجيش الوطن لا جيش الطائفة أو دولتها التي فقدت مبررات الاستمرار!
هل تستحق مكافحة الحد الأدنى من الاصلاح كل هذه التضحيات الجليلة؟!
إن “الضابط الصغير” يسفه كل كلام عن الاصلاح ، ويرفض أي مناقشة في ضرورة التحرير الفوري لإجبار “المحتل السوري” على الخروج بقوة السلاح.
ورئيس “الجبهة اللبنانية” الذاهب إلى لقاء اللجنة العربية في الكويت يطمئننا، إلى أن الانسحاب يسبق – بالأولويات – الاصلاح.
… ترى أين توارى موضوع الانتخابات الرئاسية.
أليست حكومة “الضابط الصغير” ، بحال سلمنا بشرعيتها ، حكومة انتقالية مهمتها الوحيدة توفير مناخ الوفاق الوطني الضروري لإجراء الانتخابات الرئاسية؟!
أتراهم نسوا إنها “حكومة انتقالية وتبنوا نظرية سمير جعجع في إنها “حكومة استقلال وأكثر”؟!
… واستقلال عمن ، للمناسبة؟! عن سائر اللبنانيين؟
ثم إن “مراسم” تشكيلها لم تكلفها بمهمة التحرير ، و”الرئيس الشرعي” الذي نقل إليها عدوى الشرعية كان عائداً لتوه من دمشق، بقصد التفاهم معها على الخلف وليس من أجل مطالبتها بسحب قواتها العسكرية من لبنان.
أترانا نسينا كل تلك الحقائق والوقائع؟!
أترى هذا هو هدف “حرب الجنرال” التي رفع راية لها “تحرير” القسم الذي لا يهيمن عليه من لبنان الجريح؟!
سنظل ننتظر صحوة العقل الماروني،
سنظل ننتظر أن تتحرك القيادات المارونية لوقف هذه الحرب المجنونة، التي عزلت الطائفة العظمى عن جميع اللبنانيين، وعن العرب (إلا أقلهم) وعن العالم كله،
ولسنا نريد لأي فرد لبناني، أو طائفة في لبنان، مثل هذا المصير البائس،
فالثمن ندفعه جميعاً، لا فرق بين أبناء طوائف الدرجة الثانية والثالثة والعاشرة بين المتحدرين من صلب الطائفة العظمى.
إن ميشال عون يلعب اليوم بمصير الطائفة العظمى، سائراً على خطى أسلافه الذين لم تقمع المارونية السياسية جنون العظمة عندهم، بل لعلها سعدت به لبعض الوقت إذ دغدغ بعض غرائزها وبعض ذكرياتها المريضة.
والموقف من ميشال عون هو موقف من نمط من قيادات هذه الطائفة العظمى التي تعيش الآن خريفها، وهو موقف من العقل الانتحاري الذي يريدها لنفهس ولو جاء بعده – أو بسببه – الطوفان.
بل إنه موقف من قيادات الطوائف جميعاً، في هذا العصر، التي تبرر وجودها وارتكاباتها، بجنون الطائفة العظمى وقياداتها “الترسو”،
وبهذا المعنى فإن الاصلاح السياسي مطلب وطني عام،
ولعله ضرورة للموارنة قبل سائر الطوائف في لبنان الخالد!
… أليس كذلك يا الشيخ صباح؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان