ما زال إسحق رابين “جنرالاً”، وما زالت حربه على العرب مفتوحة، وهو يتصرف الآن وكأنه يخوض جولتها الحاسمة عبر التفاوض بشروطه من أجل “سلام” إسرائيلي محصن بالرعاية الأميركية الكاملة.
إنه يقطع زيارته الأولى للإدارة الأميركية الجديدة ليعود إلى مطاردة الأطفال والفتية في شوارع مدن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشريف.
وقبل ذلك كان قد قطع السياق “الطبيعي” للمفاوضات مع “أعدائه” العرب بعمل من طبيعة حربية تمثل بطرد أكثر من أربعمائة فلسطيني من أرضهم ورميهم في عراء العجز العربي والاستكانة الدولية شبه الشاملة للهيمنة الأميركية، كأنه يعلن الحرب على كل الناس وكل شيء: قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مؤتمر مدريد ومشروع “السلام” بالمفاوضين والرعاة.
“الجنرال” يراها فرصة لا تعوض لربح حرب “السلام”، وبالوسائل كافة، سياسية ودبلوماسية وعسكرية أيضاً،
و”الجنرال” يعرف أن حربه هذه تفتح الباب للعديد من مشاريع الحروب الأهلية في الأقطار العربية، بدءاً بفلسطين وانتهاء بأقصى المغرب وأقصى المشرق،
إنه يذهب في”التطرفط وفي “الأصولية” إلى آخر المدى، مستدرجاً رداً من الطبيعة ذاتها، بحيث يتكفل “التطرفان” ومن موقع التضاد بنسف مشروع التسوية مع إبراء ذمة الأميركي (والسوفياتي الذي صار روسيا وها هو يكاد يصير نسياً منسياً) من دم الصديق الذي اسمه “مؤتمر مدريد”.
إنه يفرض على الفلسطينيين، مثلاً، أن يسبحوا إلى المفاوضات على أرضهم ومستقبلهم فيها في بحر من دمائهم، سواء تلك التي يهدرها رصاص جنوده، أو تلك التي تسفحها المنازعات في ما بينهم على الفتات المعروض ومن هو “الممثل الشرعي” المفوض بأن “يلم” ذلك الفتات البائس الذي لا يحرر الارض ولا يحمي إنسانها وحقوقه.
وهو يحاول أن يعرض على السوريين ما يعرف تماماً إنهم لا يمكن أن يقبلوا به لأنه يتناقض مع طبيعتهم كما مع حقوقهم “الوطنية” في أرضهم ومع دورهم “الشرعي” على الصعيد القومي، ليس فقط لكي يحرجهم، فهو يعرف أنهم سيرفضون، ولكن من أجل استدراج مزيد من المناكفات العربية، ومن أجل فتح الباب أمام “المناقصين” و”المزايدين” لكي ينسفوا بأيديهم ما كان يصور – وهماً – وكأنه مطلب عربي،
وهو يتجاهل اللبنانيين كلياً مستهدفاً إثارة “كيانيتهم” في وجه السوريين الذين يسهل عليه والحالة هذه تصويرهم – هم!! – كمعتد على سيادة لبنان ومتجاوز لاستقلاله، بينما العدو الإسرائيلي يعرض “مساعدته” على البلد المهيض الجناح.
من موقع “الجنرال” وبالأدوات الحربية يحاول إسحق رابين أن يثبت أنه أكثر ذكاء وأعظم قدرة في السياسة ومناوراتها من سلفه الإرهابي العجوز إسحق شامير،
في الوقت ذاته فهو يحاول أن يثبت أنه المتفوق في ميدان القتال، ويقدم جثث ضحاياه من فتية فلسطين أدلة لا تدحض، خصوصاً وإنه قتل منهم في شهور نسبة أعلى مما قتل شامير في سنوات.
أما العرب فيبدون في وضع لا يحسدون عليه: إن هم أظهروا تمسكاً بحقوقهم فكأنهم يعلنون الحرب على الولايات المتحدة الأميركية، وإن هم أظهروا مرونة، فرضت عليهم إسرائيل المزيد من شروطها المرفوضة بحيث لا يكون لـ “السلام” الذي تعرضه اسم آخر غير “الاستسلام”!
وهم لا يريدون أن يخسروا الرعاية الأميركية، ولكنهم يريدون “السلام” الذي وعدهم به مؤتمر مدريد، فإن طلبوه فعلاً افتقدوا الرعاية والراعي، وإن تمسكوا بالمؤتمر خرج منه الإسرائيلي مستخدماً باب النجاة الأميركي!
“الحرب” أميركية و”السلام” إسرائيلي، فأين المفر؟!
… خصوصاً وإن العرب ممنوعون من أن يكونوا “عرباً”. على كل منهم أن يخرج من عروبته وعليها، وأن يتخلى عن “القضية” لكي تصير “شأناً بلدياً” ليست من اختصاصات الحكومات والدول، بل هي من اختصاص الحاكم العسكري “للمناطق” الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي،
إن الفلسطيني رعية، في العين الإسرائيلية، لا دولة له إلا إسرائيل،
أما سوريا فهي دولة محدودة بحدودها، ولا شأن لها خارج نطاق هذه الحدود إلا في ما يتصل بوجوه التعاون مع “الدولة الجارة” في مجالات السياحة والبيئة والمياه والتبادل التجاري!
وأما لبنان فيمكن تحويله إلى “مدى حيوي” يسهل ذلك التعاون المنشود، بخبرات أبنائه في المجالات التجارية والمصرفية والسياحية الخ!
ما حول الكيان الإسرائيلي “جبهات” في نظر الجنرال، أما أن تستسلم وأما أن تؤخذ حرباً،
وليس ضرورياً أن تتكلم المدافع، مجدداً، فالضغط الأميركي قد يفعل فعلها مع تجنب دورة العنف التي تعيد الظروف السائدة إنتاجها باستمرار.
إن “الجنرال” يخوض حروبه “الإسرائيلية” في الخارج،
إنه يقدم “المقاتل الأول” والأشرس، والأعند، والأكثر دموية، من خلال الفلسطينيين،
ويقدم نفسه “السياسي الأول” الأذكى والأبرع والأقدر من خلال نجاحه في فرض خطته على الإدارة الأميركية الجديدة التي تبنتها مسقطة بذلك مشروع إدارة بوش – بيكر في “مؤتمر مدريد” وعبر رعايته كجائزة ترضية للعرب المهزومين في “عاصفة الصحراء” التي مُنعت إسرائيل – شامير من المشاركة المباشرة فيها لكن إسرائيل – رابين تقطف الأنضج والأحلى من ثمارها الذهبية!
كذلك فهو يقدم نفسه الأكثر تصلباً وتطرفاً وأصولية، موفراً بذلك المزيد من الظروف الموضوعية لإشغال منافسيه في تجمع “الليكود” في حرب داخلية أطاحت بشامير لتأتي بتنياهو على حساب ديفيد ليفي وسائر “الصقور” من أمثال بنيامين بيغن.
إن رابين يحاول نقل الحرب من داخل إسرائيل إلى خارجها،
فإذا كانت الحلول متعذرة لمشكلات “المجتمع الإسرائيلي” المتعددة والمتنوعة والمعقدة، فإن الهرب إلى الخارج ومحاولة إخضاعه أكثر فأكثر تبدو ممكنة في ظل الرعاية الأميركية وجنوح أكثرية الحكام العرب إلى … الاستسلام.
وبرغم أن اجتماع دمشق قد لجأ إلى المخرج الوحيد الممكن، والذي يحفظ ماء الوجه، فإن الجنرال الإسرائيلي يرفض الانتظار أسبوعين، ويزيد من ضغطه على حليفه بيل كلينتون لكي يرد ضيفه الذاهب إليه بعد أيام الرئيس حسني مبارك خائباً، بحيث يسقط في يد المفاوض العربي ولا يملك غير أن يمشي على النار الأميركية إلى “السلام” الإسرائيلي القاتل.
… ولسوف يستفيد الجنرال الإسرائيلي من أن “الطيار المصري” السابق ينظر خلفه بخوف شديد، إلى داخل مصر، بحيث يتعذر عليه أن يرى أمامه بوضوح.
وليس تحولاً بسيطاً أن تكون مصر قد غدت مصدر خوف لحاكمها بدل أن تكون مصدر خوف عميق ومصيري لعدوها… القومي.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان