للمرة الأولى منذ زمن بعيد تبرز “الدولة” في لبنان باعتبارها “القيادة” و”الزعامة” و”المرجعية” الزمنية والروحية أيضاً لجماهير “الشعب” وطوائفه العديدة!
وبقدر ما يتجلى إفلاس القيادات والأحزاب والمنظمات والميليشيات السياسية منها والعسكرية، الطائفية منها والمذهبية، العقائدية منها والتقليدية (وشبه الجهوية)، تتسع الفرصة أمام “الدولة” كخيار وحيد، بل كخلاص وحيد للبنانيين العاجزين عن الخروج من الحرب طالما استمر غياب الدولة!!
وما تحاوله هذه القيادات الآن هو أن “تسقط” في الدولة!!
والسقوط في الدولة يعني أن تعوّض ما فقدته في الشارع، وأن تستعيد عبر الحكم ومغانمه اعتبارها ونفوذها المتزعزع، وأن تقفل باب التغيير أو احتمالاته في وجه “حزب الدولة” الذي طالما تصدى لمخالفاتها وتجاوزاتها وانحرافاتها وطالما تحمل قهرها متمسكاً بإيمانه بالدولة كمرجعية وطنية وحيدة.
لقد كانت لها السيادة و”مبررات” التسلط والتحكم في غياب الدولة باسم “القضية” التي سرعان ما تكرمشت وتقزمت فصارت “الطائفة”،
وها هي الآن تحاول اقتحام الدولة بدبابة مسروقة من الدولة، باسم الطائفة، طارحة نفسها كقيادات “شرعية” للسلطة والحكم (الديموقراطي البرلماني) في عصر السلام… الوطني!
أي إنها باسم الطائفة أعملت معول الهدم في الدولة وتناتشت أسلابها،
وهي الآن تتقدم بوصفها “المعمرجي” المؤهل لإعادة بناء الدولة (!!) مستقوية على الدولة بالذريعة الطائفية إياها معززة بالقدرات الاقتصادية ومواقع النفوذ والهيمنة التي جنتها من خيرات الدولة وعلى حسابها،
ومع تبلور صورة الدولة أثر إسقاط التمرد في عملية 13 تشرين الأول التاريخية تخلت هذه القيادات وبسرعة مذهلة عن ادعاءاتها “الوطنية” و”القومية” و”الأممية” مستعيدة تكوينها الأصلي كممثلة للطوائف والمذاهب ليس إلا.
على إنها، في السياق، حاولت أن تنتزع من الدولة الوليدة الاعتراف “بحصرية” تمثيلها للطوائف والمذاهب، فإذا كل قيادة منها “الممثل الشرعي والوحيد” لهذه الطائفة أو تلك، لهذا المذهب أو ذاك،
… وطالما إنها “كونفدرالية طوائف” فتكون هذه القيادات بعينها هي ركائز الدولة الحديثة (!!) جمهورية الطائف، بوصفها “الوكيل المعتمد الوحيد” لطوائفها ومذاهبها قاطبة!
كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا،
بل أسوأ بكثير: فمن قبل كانت الطوائف والمذاهب مفتوحة للصراع شبه السياسي، ولقد تهاوت زعامات “تاريخية” وبيوتات ورموز “إقطاعية” تحت وطأة الهجوم عليها من على يسارها تحت لافتة الغبن والحرمان أو الخوف وعدم الاطمئنان وتصدع الامتيازات،
أما الآن فلكل طائفة ممثل أوحد أو اثنان أو ثلاثة وكحد أقصى أربعة ممثلين يتصارعون في ما بينهم ولكن في حلقة مقفلة بلا جمهور، حتى لا يقتحم الحلبة شريك مضارب أكثر فجاجة في طرحه الطائفي أو المذهبي، أو من يكشف “تساهلهم” و”تفريطهم” بحقوق الطائفة الممتازة!
ومع التمثيل الحصري فإن بناء الإدارة “الرسمية” يتم بطريقة تحمل معها بذور الموت لفكرة الدولةز
فهؤلاء الممثلون الحصريون لا يفرضون فقط الأقل كفاءة بذريعة إنه الأعظم طائفية، وإنما يفرضون الأكثر تبعية لأشخاصهم.
وإذا كان الإقطاعي يختار “زلمه” من “الجدعان” وأصحاب الزنود المفتولة أو من المكارين والفتانين وخبثاء القرى، لاستخدامهم في بث الفرقة وتجييش الأنصار، فإن “القائد” المعاصر يختارهم من الأمعات والتافهين والعبيد الذين لا وجود لهم خارج ظل “الزعيم” المفدى!
سيكون البناة، إذن، هدامي دولة المستقبل،
بل إن سر بقائهم واستمرارهم واستحقاقهم لوظائفهم الجديدة يكمن في تصاغر الدولة أمامهم بحيث يصير بإمكانهم الادعاء إنهم علة وجودها، وإنها لولا موافقتهم لما قامت، وإنهم أكثر ضرورة لها من شعبها ذاته.
وهذه تجربة “القوات اللبنانية” شاهد قاطع:
ففي حين تمنن الدولة كل لحظة بأنها تنازلت فسمحت لها بالدخول إلى “مناطقها”، وتخلت لها – ولو مؤقتاً، وبشروط – عن “سلطتها”، فهي تستعرض أسباب قوتها بما يؤكد إنها أقوى من الدولة وأبقى، وإنها المانح المانع، وإن الدولة مجرد ضيف ثقيل وطاررئ وعابر، فإن هي أحسنت سلوكها منحت “غرين كارت” وإن هي عصت أخرجت إلى جهنم… الغربية، وبئس المصير!
وفي انتظار استكمال شهادات حسن السلوك من الوكلاء المعتمدين والحصريين للطوائف والمذهب، يتساءل المواطن: أي دولة هي تلك التي ستبقى، وهل تستحق انئذ فعلاً تسمية الدولة؟!
قبل عامين غيب الموت “النسخة اللبنانية” من العروبة: تقي الدين الصلح.
وتقي الدين الصلح أكثر من سياسي وأقل من صاحب نزعة رسولية، لكن حسه بالتاريخ كان هو الأعمق، وربما لهذا كانت مقولاته وطروحاته وأفكاره أهم بكثير من ممارساته السياسية اليومية. كان سيد “اللعبة”، ومع إن مسرحها كان ضيقاً عليه، إلا أنه كان يرتضي أن يقاس بالآخرين ليكون من نادي الحكم.
لولا الحكم لكان تقي الدين الصلح في منزلة الداعية صاحب الرسالة.
لكن الحكم أبعده عن نموذج الأمير شكيب أرسلان من دون أن يطابقه مع نموذج رياض الصلح.
اليوم نستذكر ما تبقى من تقي الدين الصلح، وهو كثير وقيم ومؤثر، خصوصاً وإنه بمجمله يتصل بالداعية وصاحب النزعة الرسولية أكثر مما يتصل بصوره الحاكم في “تقي بك”.
عندما من الحكام أكثر بكثير مما ينبغي ومما يطاق، هذا من قبل أن يقتحم النادي كل هذا الطابور من المتحكمين.
لكن المفكرين والمثقفين في النادي السياسي اللبناني، بل العربي، قلة نادرة.
لهذا نفتقد تقي الدين الصلح ونستذكره كل يوم، فبدلاؤه ومنافسوه وأدعياء وراثته هم أعظم الدعاة له، وهم الذين يفرضون على اللبنانيين أن يستحضروه كل ساعة،
لكأنه هو الحي وهم الذين رحلوا،
فالفكر هو الباقي، أما الحكومات فتذهب جفاء.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان