لنتفق دباية أنه لا يمكن لعاقل أن يكون ضد أي انتخابات تجري في أي مكان أو زمان، تستوي في ذلك انتخابات نقابة أنصار الضفادع أو انتخابات مجلس النواب البريطاني، أو – أخذا بالموضة – انتخابات الكونغرس الأميركي بمجلسيه.
فالانتخابات كلمة لها فعل السحر، لاسيما في نفوس المحرومين من نعمة ممارستها، والذين يتحسرون وهم “يتفرجون” على شعوب العالم تنتظم في طوابير، أحياناً تحت الثلج وأحياناً أخرى تحت المطر وفي بعض الحالات تحت نارشمس الظهيرة، ثم يتقدم كل رجل منهم وامرأة فيضع أو تضع ورقة صغيرة في صندوقة صغيرة فإذا بالنتائج كبيرة وخطيرة ومثيرة، قد تسحب من التداول زعماء وقادة ونجوماً وحتى أبطالاً تاريخيين.
… ولقد سمحت لنا التقنيات الإعلامية الحديثة بأن “نتفرج” على “مناظر” انتخابات مجلس “الأمة”؟! في الكويت، وأن نستمتع ببعض الروايات عن أكلافها حتى لقد تمنى الكثيرون لو تحولوا – مؤقتاً – إلى كويتيين، يفوز نائبهم ببعض مئات من الأصوات، بينما يفوز ناخبهم ببضعة آلاف من الدنانير والدولار للدينار مثل “يس”: ثلاثة بواحد!!)
مع ذلك فلا يمكن لأحد أن يعترض أو يستهين بأمر الانتخابات في الكويت، بغض النظر عن “الفولكلوريات” الخاصة بهذا البلد الذي احترف حكامه تكبير الصغير (في الشوارع كما في الأبنية، وفي الصحافة كما في السياسة)، إذ هي الطريق الوحيدة لإيهامهم بأنهم قد صاروا بالفعل “دولة عظمى”، كما وصفهم ذات يوم الملك السعودي الراحل فيصل بن عدبد العزيز آل سعود.
وإذا كان صعباً المفاضلة في الأهمية بين انتخابات مجلس الأمة في الكويت والانتخابات الفرعية في كسروان لملء الشغور في المقاعد النيابية الخمسة الباقية، فإن من المفيد إجراء مقارنة سريعة مع بعض مظاهر هاتين المعركتين اللتين طبق غمارهما الآفاق وكادتا تشغلان الناس عن كل ما يجري في الدنيا الواسعة خارج “حدودهما”:
*أول وجوه التشابه أن عدد الناخبين يتقارب جداً، ففي كسروان (ومعها الفتوح) أكثر قليلاً من ستين ألف ناخب، وفي دولة الكويت (ومعها الضواحي والملحقات) مثل هذا العدد.
على أن عدد المقاعد في الكويت خمسون، بينما هي في كسروان خمسة، وعدد المرشحين يعكس النسبة نفسها تقريباً (278 في الكويت 24 في كسروان، أي نسبة 1 إلى 10 أو إلى 11).
*ثاني وجوه الشبه أن المرشحين يتعاملون مع واقعهم المحلي وكأنه الحقيقة النهائيةن، كل ما عداه تفصيلي، وكل ما خارجه ثانوي، والكويت مثل كسروان مركز الكون، فيها وانطلاقاً منها ومن أجلها وعلى خاطرها وإنفاذاً لإرادتها تقرر مصائر الدول والشعوب، وهي محور السياسات الدولية: يعمل في خدمتها الأميركي الجبار والروسي السمسار والأوروبي المحتار، وكله بفضل “العبقرية” التي تميز اللبناني (الكسرواني تحديداً) والكويتي بعامة، سواء أتمثلت العبقرية بادلينار أم بشطارة الشطار؟!
*ثالث وجوه الشبه أن العراك محتدم ، والقعقعة تصم الأذان، وكل الأسلحة في الميدان، من المال إلى أحدث وسائل الاتصال، إلى أهم أجهزة الأعلام المسموع والمرئي والمقروء، ولكن – مع الأسف – بلا قضية.
لا ينفي هذا التوصيف، أو هو لا يقلل من أهمية الديموقراطية كقضية، ولكن الديموقراطية الشكلية هذه لا تعني شيئاً.
إنها ديموقراطية في الفراغ.
فحين تسقط سهواً هوية البلاد، وموقعها في قلب أمتها، ودورها في صد المخاطر التي تحيط بها بل وتتهددها، ويتم الفصل القسري بين هموم الناس المعيشية وبين طبيعة النظام الكياني شبه العنصري، تتحول “الديموقراطية” إلى ترف ، أو إلى منحة من الحاكم، أو إلى معركة وهمية تجري خارج عقول الناس وخارج قلوبهم.
فأين “المواطن” ولا “وطن”؟!
وأين حقوق الإنسان إذا كانت الكيانية تحصن نظام الحكم الفئوي وتمنع المس به، بل وتسخر حتى الديموقراطية الشكلية لتلميع صورته وتمكينه من ادعاء السبق إلى الإنجاز في احترام الإنسان وحقوقه؟!
وفي الكويت، على سبيل المثال، تجري الانتخابات الديموقراطية في ظل الاحتلال الأميركي، من دون أن يحاول أي مرشح طرح السؤال: إلى متى يبقون، وماذا ستراهم سيبقون لنا من خيرات بلادنا؟!
ومع الأخذ بعين الاعتبار المرارات الهائلة التي خلفتها خطيئة صدام حسين المميتة في غزو الكويت، بكل تداعياتها، فليس مقبولاً أن ينسى الكويتيون – في أول مناسبة للتعبير عن رأيهم – حقيقة إنهم “عرب”، بحكم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا، وإنهم لم يصيروا أميركيين تشغلهم يومياتهم عن مسؤولياتهم، وتهمهم أسعار أسهم البيبسي كولا أكثر من مصير فلسطين وشعبها، بل وحتى مصير العراق الباقي جاراً كبيراً وشقيقاً، برغم كل ما ارتكب باسمه وحقه.
ففي جملة ما أفاد منه صدام حسين وهو يقوم بتنفيذ جريمته قبل سنتين نقص العروبة في النظام الكويتي، وهو الوجه الآخر لعدم تسليمه بالديموقراطية كحق أولي من حقوق مواطنيه.
والديموقراطية بلا عروبة تصير تسليماً بالأجنبي وبالحاكم الذي ينصبه الأجنبي، وبالنظام الذي يفضل الأجنبي على العربي، بمن في ذلك “العرب” من شعبه.
وآه لو كانت أهداف هذه المعركة تتوازى مع أكلافها الهائلة ومع دويها الذي يكاد يتحول إلى تشهير، خصوصاً وإن عدد الصحافيين الذين استقدموا للانبهار “بالأمة” الكويتية ومجلسها وديموقراطية حكامها يكاد يعادل عدد الناخبين في معظم “الدوائر” في تلك الدولة العظمى!
مع ذلك كله، فمرحى للانتخابات ، أي انتخابات، ولو على الطريقة الكسروانية أو على الطريقة الكويتية، حيث ينظر كل إلى نفسه وكأنه مركز الكون ويرى دائرته “أمة تامة” لا تجوز مقارنتها بغيرها،
مرحى للديمقراطية ، ولو مذهبة ومطرزة بالدينار… فبديلها هو الصمت الأبيض كالذي في “الشقيقة الكبرى” حيث سيحتفل بعد أيام بالذكرى الخمسين لبداية التحدث عن تعيين “مجلس للشورى” لا صلاحيات له ولا حق بالقرار، ومع ذلك فما زال موعد قيامه في ضمير الغيب… كأن قفيامه هو القيامة التي أنذر الله بها عباده الصالحين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان