بدا كلام رئيس الحكومة، أمس، وبعد لقاء المصالحة الذي أعقب لقاءات المصارحة الدمشقية، أشبه بقصيد من الزجل اللبناني المصفى: قد يُطرب السامع، لكن مفعوله ينتهي مع آخر “ردة” حين “تذهب السكرة وترجع الفكرة”، وهموم ما قبل “القول” وإبداع “القوال”.
وأبرز العيوب في الكلام – البيان الذي تلاه رئيس الحكومة المستقال – المستقيل – العائد – المعاد، إنه يجيء بعد سنتين من ممارسة السلطة، وبعد أربع محاولات (على الأقل) للاستقالة مع البقاء وللبقاء مستقيلاً،
ربيع واحد للوعود،
أما بعد التجارب المرة فليس سهلاً تصديق الوعود المعادة والمجددة للاضطرار.
وما لم يتحقق من الانتظام في عملية النهوض الوطني، على طريق مشروع الدولة، من قبل، لن يتحقق غداً بالأدوات نفسها وبالأساليب ذاتها.
الرجل هو الأسلوب… وقد آن أن ندرك أن هؤلاء الرجال لم يتغيروا ولن يتغيروا، ولا هم سيغيرون ما بأنفسهم، فكلهم “فوق السن” ولن يستطيع أحد أن يعيد خلقهم أو أن يعيد تطبيعهم بغير ما شبوا عليه من أخلاق وقيم وأساليب في التصرف.
وفي لبنان “لم يخلق بعد” الرجل الذي يرى “المؤسسة أكبر منه”، فكيف إذا كان مسؤولاً، وصاحب فخامة أو صاحب دولة أو صاحب المعالي.
لقد أشار دولته، وأكثر من مرة، إلى ما حدث في الأسابيع الأخيرة وكأنه “سقطة” أو هفوة” أو “استثناء”، بينما يعرف الناس كما لا بد صار دولته يعرف، إن تلك “التقاليد المرفوضة والمدانة من الرأي العام” هي القاعدة في السلوك السياسي العام وليست خروجاً عليها،
وليس من حق دولته الإدعاء أنه قد فوجئ بهذا الواقع، وإنه لم يكن يعرف الأمور على حقيقتها، فهو وإن كان – بالنشأة – من “خارج النادي”، إلا أنه تقدم بطلب الانتساب إليه منذ أكثر من عشر سنوات وبعد “الكشف” وبعد “المعاينة” وبعد أن عرف تفاصيل التفاصيل وبرغم ذلك جاء ساعياً بقدميه و”بمصداقيته وكرامته وثقة الناس به” لكي يدخل إلى “نعيمه” حيث “التقبيح والتشويه بالإثارة”.
بل إن طي موضوع الاستقالة، وتجاوزه خطياً وشفهياً، يأتي دليلاً جديداً على أن دولته قد بات ابناً شرعياً لهذه المدرسة السياسية التي نضحت بعض عطرها خلال الأسابيع القليلة الماضية، وبالتالي فهذا سبب إضافي لسقوط حقه بالاعتراض.
إن خيمة كراكوز هذه المسماة دولة قد قامت على أكوام من الوعود والتعهدات والقوانين – البرامج والتشريعات المشخصنة، أطلقها كل من ولي الأحكام منذ إعلان غورو الشهير وحتى اليوم.
كلهم باعوا الأوهام ذاتها… ثم مضوا إلى المناصب والعز والثروة والجاه داخل “دولهم”، وبقي المواطن وحده يسبح في بحور الأوهام ولا دولة له.
وكلهم أطلقوا الإيمان المغلظة بالخضوع للدستور واحترام إرادة الشعب والتقيد بضوابط المؤسسات والانضواء تحت لوائها والالتزام بمنطقها، ثم ابتلعوا التعهدات والإيمان وعملوا فتكاً بالمؤسسات حتى صارتهم… أي حتى قزموها في أشخاصهم، ومع ذلك فقد استحال التعاون بين الرجال – المؤسسات، فكل منهم أراد أن يكون الثلاث في واحد أو الأربع في واحد أو الخمس في واحد، وهل يمكن أن توفر المؤسسات من الضمانات أكثر مما توفره كلمة شرف منه؟!
إنه نظام الدولة – الرجل، أو الرجل – الدولة!
لا مجال للاثنين معاً: فأما دولة، وأما رجال يتوزعون الدولة ويتقاسمونها فيتعاركون قبل القسمة وخلالها وبعدها.
ولذلك لدينا “رجال دولة” أكثر من الهم على القلب أو في القلب، ولكن الدولة ما تزال حلماً نودعه – كما الهدايا – أحذية أطفالنا عشية عيد الميلاد، لكي نفرّج بعض الكآبة التي تجيئهم كلما وقعت عيونهم مصادفة على صورة رئيس أو كلام رئيس أو خطاب وزير خطير.
مبروك، لقد حل الوئام مجدداً بين رجال الدولة، وبمجرد أن قرع جرس الإنذار قامت المؤسسات من بين الأموات، وانتفضت لتعلن بداية “العهد الجديد” عشية غروب شمسه.
لكن ثمة مشكلة لوجستية بسيطة: إن الطرقات قد أكلتها الحفريات المتعددة الأغراض، وإن أزمة السير خانقة، مما يستحيل معه على أي كان الوصول إلى حيث يقصد في الموعد المضروب.
في هذا الوقت الضائع يمكنك إطلاق العنان للإذاعات كي تعيد عليك البيان الدقيق الصياغة بما يكفي لإخفاء النوايا والمقاصد والعواطف والأحقاد والأغراض، المؤسساتية.
فإذا ما بلغت بيتك بالسلامة لا تنسى أن تشغل ماسحة الذاكرة، لكي تريح مخك من كل ما سمعت: ما تقدم منه وما تأخر، وإلا لم تستطع أن تستقبل غدك بالنشاط الكافي لتأمين قوة عيالك.
وكل مصالحة مؤسساتية تعقب الاستقالة المؤسساتية وأنتم بخير.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان