يقدّم النظام العالمي الجديد بقيادته الأميركية المطلقة إضافات جديدة، بوتيرة شبه يومية إلى التراث الديموقراطي لإنسان القرن العشرين، مما يجعل الشعوب المستضعفة أكثر اطمئناناً إلى المستقبل!
من “عاصفة الصحراء” إلى “عاصفة الصلح الإسرائيلي” إلى “عواصف” الحروب الأهلية المنظمة بدقة في يوغوسلافيا (السابقة) كما في الصومال وجنبات أخرى من أفريقيا، وانتهاء بـ “عاصفة الثلج الديموقراطية” في موسكو، تعطي واشنطن الشعوب دروساً في كيفية بناء أنظمتها الحديثة الموطدة لحقوق الإنسان.
الدبابات تقصف البرلمان والنواب فيه.
النواب المحاصرون يؤمرون بالخروج، كما أسرى الحرب، أيديهم خلف أعناقهم يتقدمهم علم الاستسلام (للديموقراطية المصفحة) التي ما تزال تمطر “المعارضين” بقذائفها الحرة.
والمتحدثة باسم البيت الأبيض (الأصلي في واشنطن) تكاد تزغرد بالفرحة: يجب على الحكومة الديموقراطية أن تدافع عن نفسها ضد القوة!
والبيت الأبيض الروسي، الذي كان قبل سنتين فحسب، رمزاً للديموقراطية، في نظر واشنطن، وقلعة للإرادة الشعبية في مواجهة النظام الدكتاتوري البائد، يحترق وترتفع ألسنة اللهب المنبعثة من نوافذه لتضيء الليل الأميركي الطويل في العاصمة التي كانت ذات يوم المنافسة العظمى لواشنطن وعلى امتداد الكون.
لا عقيدة للدبابة، وليس للمدفع ولاء: فالدبابة السوفياتية تنفع أيضاً لهدم نظام شيوعي و”لبناء” نظام رأسمالي، تماماً كما نفعت الدبابات الأميركية في تهديم نظام غربي في طهران، والدبابات البريطانية – من قبل – في سحل جثة نوري السعيد في بغداد.
والدبابة قد تكون رمزاً للدكتاتورية والعسف وقهر إرادة الشعب، وقد تتحول بسحر أميركي على رمز لقهر العبودية والتحرر من الدكتاتورية وحماية حقوق الإنسان، كما تريدنا واشنطن أن نقرأ الحدث الروسي.
بالمقابل فليست كل ديموقراطية ديموقراطية وليست كل انتخابات تعبيراً عن إرادة الشعب!
من الجزائر على موسكو جرى التوكيد على “الحقائق” ذاتها: فإما أن تجيء نتائج الانتخابات حسب الطلب أو تصبح مصدر خطر على السلامة العامة ومدخلاً إلى الحرب الأهلية وتهديداً للسلام والنظام العالمي الجديد!
وثمة أنواع محرمة من الديموقراطية وأنواع مدجنة ومقبولة:
فالاستفتاء على الولايات الثالثة (أو العاشرة) للرئيس المصري حسني مبارك مقبول بعجره وبجره وبغض النظر عن نسبة المشاركين فيه… وهو تعبير ديموقراطي لا ريب فيه عن الإرادة الحرة للشعب المصري!
أما أن تنجح جبهة الإنقاذ الإسلامي في الجزائر وبالانتخابات فهذا اعتداء فظ على إرادة الناخب الجزائري ولا بد من وقف الانتخابات وإلقاء القبض على النواب الفائزين واعتقالهم في جوف الصحراء، حماية للديموقراطية من خطرهم!
وفي موسكو تبيح الديموقراطية لبوريس يلتسين خرق الدستور وحل البرلمان، متجاوزاً صلاحياته ومعتدياً على الإرادة الشعبية، ممهداً لحكم الفرد، ولكنها تحرم النواب المنتخبين من حق الاعتراض، ومن الدفاع عن مجلسهم وعن الناخبين الذين منحوهم أصواتهم ثم جاء آلاف منهم يحموا “كعبة الديموقراطية” الغربية بصدورهم العارية.
وبينما كانت الدبابات توجه طلقات مدافعها إلى مبنى البرلمان والنواب فيه، كانت بيانات التأييد الصادرة عن الديموقراطيات الغربية تتهاطل على يلتسين بوصفه بطل الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان!
مع بوريسي يلتسين تختفي من القاموس الغربي تعابير مثل الدكتاتور والسفاح والقمع والإرهاب والقتل الجماعي وتزوير إرادة الأمة، وتسحب النعوت المؤذية من التداول.
إنه يتصرف كمطالب بتقديم نموذج للديموقراطية الغربية، على الطريقة الأميركية.
والمهم، بالنسبة لواشنطن، أن ينجح الغرب وليس الديموقراطية.
إنه مكلف بمهمة، والمطلوب أن ينجح فيها، وغير مهم كيف وبأي ثمن.
إنه “رجل الغرب في روسيا”، وليس مهماً كيف تكون روسيا بعده، المهم أن تصبح غربية.
لقد لعب الغرب، بقيادة الديموقراطية الأميركية دور المحرض لبوريس يلتسين من أجل الاندفاع على طريق الدكتاتورية الدموية وحكم الفرد.
وبالطبع، يمكن لهذا الغرب التنصل في أية لحظة من هذا “اليلتسين” الآتي من الشيوعية وتحميله كل المسؤولية عن “المجازر” و”انتهاك حرمة البرلمان” وتجاوز صلاحياته وتجاهل الإرادة الشعبية، ورميه إلى المجهول، كما رمى من قبل سلفه طيب الذكر ميخائل غورباتشوف.
المهم أن ينجز اليوم المهمات القذرة المكلف بها، وأن يفتح الطريق للممثلين الفعليين للديمقراطية الغربية، وقبل أن تستفيق روسيا من سباتها العميق.
وروسيا غائبة عن الصراع منذ انفجاره، بل قبل ذلك بجيل أو جيلين…
إنها تبحث عن نفسها، عن روحها، وليس فقط عن الخبز.
وفي انتظار أن تصحو روسيا سيظل حريق البرلمان الضوء الوحيد في ليل موسكو الطويل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان