ليس بين الحاكم العربي والأرقام صلة ود ولا عميق احترام، إنها تذكره غالباً بالفضيحة وبسوء استخدامها لتضخيم الإنجاز أو لتحجيم الخسائر، وإجمالاً لنفاق ضحاياه المحكومين أو لاستغبائهم.
ونادراً ما “تتكلم الأرقام” باللغة العربية.. وفي العادة يضطر المواطن العربي إلى ترجمتها من اللغات “الحية” الأخرى، ولاسيما الإنكليزية، لكي يعرف أبسط شؤون حياته و”أسرار” ميزانيته الشخصية ناهيك بالناتج القومي العام.
في أي حال ها هي بعض المؤسسات الاقتصادية العربية تتجرأ فتطرح للتداول العلني العام بعض الارقام عن الكلفة العربية لما يسمى مجازاً “حرب الخليج” التي اتخذت لها ذريعة تلك المغامرة الحمقاء لصدام حسين في الكويت.
إذن، بات ممكناً الآن وبعد سنة ونيف على “عاصفة الصحراء” أن يحصي العرب قتلاهم وجرحاهم ومفقوديهم وخسائرهم وسباياهم في تلك الحرب التي دمرت حاضرهم ومستقبلهم القريب، على أقل تعديل.
التقرير أعدته أربع مؤسسات اقتصادية عربية رصينة هي: صندوق النقد العربي، الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي – الاجتماعي، منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط (أوابك) والإدارة الاقتصادية في جامعة الدول العربية، وقد نشره صندوق النقد العربي كاشفاً فيه حجم الكارثة القومية الذي يتجاوز كل خيال.
يقول التقرير: إن خسائر العرب في هذه الحرب غير المبررة تتراوح بين ستمائة وثمانمائة مليار دولار!
لقد ذهبت في غمضة عين، ونتيجة لمجموعة من القرارات الفردية الخاطئة، ثروة قومية برمتها، وفرض على أجيال كاملةن أن تعيش حاضرها ذليلة وأن تعجز عن تصور المستقبل ولو في أحلامها.
ذهبت الثروة (والسيادة والكرامة والقوة والحرية والهوية الخ!!) وبقي الحكام جميعاً – ولله الحمد – وعلى الضفتين، لم تسقط شعرة من رأس أحدهم، ولم يبدل حرفاً في نمط حياته أو في إنفاقه أو – وهذا هو الأخطر – في سياسته!.
وأي معنى يبقى بعد هذا لإقامة الحد وقطع يد فقير س رق رغيفاً أو بعضة قروش، أو محاسبة وزير أو مدير قبل حفنة من الدولارات كرشوة، أو مقاول زور في الفواتير أو غش الأسفلت أو أنقص الأسمنت فتهدم الجسر الجديد لدى مرور أول سيارة عليه؟!
ثمانمائة مليار دولار ذهبت طعماً لنار شهوة السلطة عند حاكم أرعن (أو متآمر، لا فرق)، أو عند آخر قصير النظر وشحيح أو عند ثالث متهالك يهمه أن يبقى ولو ذهبت البلاد كلها إلا عرشه.
ثمانمائة مليار دولار من “أموال العرب” نثرتها عاصفة الصحراء هباء، بينما معظم الأمة جائع وكلها متخلفة وغالبية أبنائها أميون والمدارس لا تكاد تستوعب العشر من عدد الأولاد في سن الدراسة؟!
لا مجال للتفجع والبكاء على أطلال الكويت أو البصرة أو حتى بغداد،
السؤال: من يتحمل مسؤولية هذه الكارثة القومية، وأين هي المرجعية المؤهلة لمحاسبة من تسبب في اغتيال حاضر الأمة ومستقبلها؟!
هل يعقل أن تمضي جريمة بهذه الخطورة بغير عقاب، وان يتحمل “العربي” نتائجها المريعة وكأنها من صنع القضاء والقدر ليس من متسبب فيها بالتحريض أو الاستدراج ولا من متورط فيها بالارتجاب أو الهوس أو التواطؤ ولا من مستفيد من ضلوع الجميع في تمكينه منهم جميعاً؟!
لا حساب على الماضي، ولا حساب على الحاضر، ولا حساب على المستقبل أيضاً؟!
وكيف يمكن أن تتقدم أمة يتساوى البطل فيها مع الخائن أو المنحرف والشريف مع السفاح والمخلص مع المزور والمرتشي والمخاتل الغشاش؟!
في الأرقام المرفقة بالتقرير عن الخسائر ما يشير إلى أن عدد “العرب” في سنة 1990، كان بحدود 224 مليوناً، وإن عددهم العام ألفين سيكون في حدود 288 مليوناً،
وفي التقرير إياه ما يفيد أن السنوات المقبلة ستشهد زيادة فلكية في الإنفاق لمواجهة “الاحتياجات الأمنية والدفاعية”، أي أن المزيد من المليارات، وربما من مئات المليارات ستذهب هدراً، او بالدقة: إن ملايين الأطفال الآتين لن يجدوا الحليب أو المقاعد الدراسية لأن “آباءهم” أو “أعمامهم” أو “خؤولتهم” سفحوا الثروة القومية وفوضوا “المحرر الأميركي” بإنفاقها على .. حماية الذات من الذات!
هذا يعني أن المائة مليون أمي من بين العرب الآن سيزيد عددهم،
وإن المائتي مليون فقير سيزدادون فقراً، وستعجز “دولهم” عن إطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وطبابتهم، فكيف بإعدادهم لتحرير المحتل من الأرض والمرتهن من الكرامة الوطنية والمستباح من الثروة القومية؟!
السؤال، مرة أخرى: من يحاسب من؟!
المفارقة أن هؤلاء الذين تسببوا في هذه الكارثة القومية يجلسون الآن على كراسي القضاة ويحاسبون الأمة بالمائتين وأربعة وعشرين مليوناً منها!.
… في انتظار أن يجيء طابور الذين أفقروا بقرار “مسؤول” والذين فرض عليهم الجهل والتخلف بمرسوم جمهوري أو ملكي، وإجمالاً الذين وئد حقهم في الحياة بينما هم يطلون على الحياة ليكونوا فجراً للغد الأفضل.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان