يكتسب هذا اليوم، الاثنين في الأول من تموز سنة 1991، قيمة تاريخية، ومن الطبيعي أن نحتفي بحدثه البارز، انتشار الجيش في صيدا ومحيطها، وأن نواكبه بعقولنا إضافة إلى عواطفنا… وإن كانت العقول قد تفسد، أحياناً، الأفراح الصغيرة.
ذلك إن بعض وسائل الأعلام، الرسمي والخاص (جداً، جداً) وكذلك تصريحات بعض المسؤولين، في الحكم، وبعض القيادات السياسية و”الفعاليات” شبه العسكرية، تصور دخول الجيش صيدا وكأنها الحرب العظمى…
ولكي تكتمل مظاهر “المعركة المصيرية” (؟!) يقدم بعض القياديين الفلسطينيين المحليين استعراضهم المثير، رداً واعتراضاً أو استدراكاً وتوضيحاً أو نفياً لتوضيح الرد أو استنكاراً لتوضيح النفي، الخ، فإذا رائحة البارود تملأ الجو، وإذا القلوب منقبضة والأعصاب متوترة وإذا الفرحة المرتجاة تكاد تختنق بالمناخ المسموم (إياه) للحرب الأهلية في فصولها الأولى!
هنا بعض الملاحظات الصريحة، وبعض الذكريات “العتيقة” التي لما تمت، بقصد منع تشويه الاحتفال بهذا الحدث التاريخي، ومنع إفساد رصانة دلالاته الوطنية.
*1* يتصرف الحكم، لحظة دخول جيشه إلى عاصمته الثالثة، صيدا، وكأنه يخترع الدولة ويستولد الجنوب ويبتدع العلاقة بين السلطة والشعب.
*2* مع إن الجيش لا يذهب إلى الجنوب فاتحاً ومحرراً، بل إن عودته هي خطوة أولى على درب الصح، إنها أشبه بعودة الابن الضال إلى أهله، ويجب أن تتسم بتواضع التائب والمعتذر عن ذنبه وليس بتعالي المنتصر أو المزهو بنفسه والمتكبر أو المتجبر على أمه وأبيه.
*3* ولسوف يستقبل أهل الجنوب الجيش العائد إلى كنفهم بالحب كله، ولسوف يرشون عليه من خلال دموعهم العطر وزهر الليمون والأرز وذوب الشوق إلى… الوطن، ولو بلا دولة، فكيف إذا ما جاءت القبعات الخاكية ببشرى “الجمهورية الثانية”؟!
*4* هي فرصة لأن يتعرف الجنوبيون، في أي حال، على جمهورية ما، خصوصاً وإنهم لم يتعرفوا إلى “الجمهورية الأولى” ولم تعرفهم… وإن كانت السنوات العجاف قد نقلتهم من أحضان “دويلة” فلسطينية إلى أفياء “مستعمرة إسرائيلية” فإلى نعيم الكانتونات الميليشياوية ذات الهوية الطائفية أو المذهبية الصريحة والمعلنة.. إذ لا حياء في الدين!!
*5* ومن الضروري التشديد على إن الجيش، المشطوب من جدول أعماله تحرير المحتل من أرض الجنوب، لا يذهب إلى قتال الفلسطينيين،
المتآمر على الجيش هو من يحقنه بمثل هذا المصل القاتل، أما الحريص على سلامته ودوره المستقبلي في الجنوب كما في سائر الأرض اللبنانيةن فيدخره لمهمة جليلة حقاً هي حماية حلم الوطن ومشروع دولته “قيد التأسيس”.
والوطن هو الشعب والأرض، ودور الجيش توحيدي في المجالين، مع التنويه دائماً بأن الوطن فوق الدولة والدولة فوق الحكم والحكم فوق الحكومة، والحكومة فوق الجيش، والشعب هو من يصنع هذا كله كما إنه قضية هؤلاء جميعاً.
*6* إن الجنوب هو من يستعيد “جيشه”، ويستعيد معه موقعه الطبيعي في دولته العتيدة، وليس العكس… أي لا يذهب الجيش ليستعيد الجنوب.
لقد سقطت الدولة وبقي الجنوب مستوطناً حلم الوطن ومستظلاً راية تلك الدولة التي لم تصل إليه أبداً في أيام “عزها” و”رخائها” و”ازدهارها” الذي كتبت عنه الكتب وتحدث عنه كبار المعلقين في الاذاعات التي لا يسمعها أحد.
*7* لا يذهب الجيش ليلبنن الجنوب، ولا خاصة لينزع الهوية الفلسطينية عن الفلسطينيين. فالجنوب كان لبنانياً وما زال وسيبقى، مع الجيش ومن دون الجيش، والفلسطيني كان وما زال وسيبقى ومن الواجب أن يبقى فلسطينياً، بالكفاح المسلح ومن دونه.
*8* والإسرائيلي هو المحتل، من قبل ومن بعد.
وإذا كان لبنان أضعف من أن يتحمل عبء “الثورة الفلسطينية”، فهو أقوى من أن يسلم بالاحتلال الإسرائيلي وكأنه قدر لا يرد.
إن الخلاف مع الفلسطيني لا يبدل، مهما اشتد، من طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يجوز زج الجيش في خلاف من طبيعة سياسية مع الفلسطيني بما ينسيه أو يشغله عن مهمته الأصلية في حماية أرض الوطن من الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا كان “التحرير” من مهمات السلطة السياسية، فمن باب أولى أن يكون التفاهم مع الفلسطيني على صيغة لوجوده (شبه الدائم) في لبنان من مهمات هذه السلطة السياسية وربما من امتحاناتها الأقسى.
*9* ومع التنويه، دائماً بأن دور الجيش في ظل اتفاق الطائف (ومعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق مع سوريا) هو غيره في ما سبق من عهود الجمهورية الأولى (؟)، إلا إنه من الضروري ألا يعامل الجيش وكأنه قد تحول فجأة إلى ملاك في حين ظل الشعب مجموعات من الشياطين والأرذال والمشاغبين،
*10* كذلك فلا يجوز أن يحدث العكس: أي أن يعامل جيش “الجمهورية الثانية” وكأنه مجرد استمرار لجيش أمين الجميل وإبراهيم طنوس والحروب المتواصلة ضد بيروت والضاحية والجبل… تمهيداً لاتفاق الاذعان في 17 أيار 1983.
ونحب أن نفترض أن الجيش يذهب إلى الجنوب، لكي يتطهر من أخطاء الماضي وليس لكي ينتقم ممن لم تمكنه “الظروف” من تأديبهم والقضاء على “تمردهم” عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982.
لا يذهب الجيش منتقماً، ولا يذهب بطبيعة الحال ليكون رهينة،
وهو يذهب تطبيقاً لاتفاق سياسي لبناني يحظى برعاية عربية ودولية، ويذهب ليترجم ما يتصل بهذا الاتفاق على أرض الجنوب. والاتفاق تسوية في البداية وفي النهاية.
صيدا عروس تنتظر فارسها القادم، أخيراً، وبعد طول انتظار.
… ومثل صيدا جزين، وبنت جبيل، والخيام، ومرجعيون ورميش ودبل وعين إبل وإبل السقي ودير ميماس وميس الجبل، وعشرات القصبات والدساكر والقرى التي أمضها الهجر والنسيان والتناسي في أطراف جبل عامل وعلى تخوم فلسطين.
وفي انتظار زغاريد العرس، لا بأس من استعادة واقعتين تختزنهما الذاكرة عن الجنوب ودور الجيش فيه، لعل الذكرى تنفع… العائدين إلى بعض الجنوب.
*** الواقعة الأولى…
في أيلول 1961 “اتسعت” نظارة المحكمة العسكرية لتضم في رحابها بعضة وعشرين موقوفاً، بينهم مجموعة من الصحافيين المتهمين “بالتعامل” مع مكتب الحكومة المؤقتة (آنذاك) للثورة الجزائرية، في بيروت، إضافة إلى “مشاغبين” و”فوضويين” وناقلي أسلحة حربية من دون ترخيص الخ.
على إن “أخطر” الموقوفين كان فتى غراً من إحدى القرى الحدودية في أقصى الجنوب، ضبط متلبساً بحيازة بندقية صيد عيار 9 ملم، واعترف أنه استخدمها فعلاً في مطاردة الثعالب التي كانت تغزو كرمه المتاخم… لفلسطين!
ولقد حكمت المحكمة العسكرية حضورياً على هذا الجاني الذي عكر صفو الحدود الدولية، وخرق الهدنة مع إسرائيل، بالسجن لمدة أسبوعين، ويمكن استبدال عقوبة السجن بغرامة مالية بواقع ليرتين عن كل يوم حبس، ومصادرة أداة الجريمة بطبيعة الحال.
احتسبت مدة التوقيف منذ اعتقاله في قريته، وجرجرته إلى صور فصيدا حتى انتهى إلى بيروت، فبقي عليه أن يدفع ثلاثا وعشرين ليرة لبنانية، ولم يكن أبوه التعس يملك منها إلا خمس عشرة، فلم يجد غير البكاء سبيلاً للتفريج عن كربته. وكان قاسياً علينا منظر هذا الشيخ وهو يتلوى ألماً ومهانة، فأخذتنا النخوة وجمعنا رصيد العجز، وكفكفنا دموع الشيخ، الذي عاد بابنه إلى القرية بعدما انتزع منه عهداً بأن يترك الثعالب وشأنها… حتى لا يزعج الليل الإسرائيلي، أو يهدد أمن الكيان العبري… الطري العود.
*** الواقعة الثانية
في أيلول 1972، وقع أول اجتياح إسرائيلي عسكري واسع للجنوب.
ولقد ذهبت، في من ذهب من الصحافيين، لتغطية انسحاب قوات الاحتلال، إذ لم تستطع إسرائيل أن تبقي قواتها طويلاً هناك، نتيجة للضغط العربي والدولي على حكومتها.
التقينا ضباطاً ورتباء وجنوداً في الجيش اللبناني شاركوا بإمكاناتهم المتواضعة في صد الاجتياح، وكانوا سعداء بما فعلوا، وإن ظلت تتآكلهم الحسرة لأنهم لا يملكون من السلاح ما يمكنهم من دحر العدو ومنع تقدمه.
وعرفنا بأمر ضباط عوقبوا لأنهم تهاونوا فلم يفجروا “النسفيات” تحت الجسور أو عند بعض عقد المواصلات لتعطيل تقدم آليات العدو وتكبيده أكبر خسائر ممكنة.
على إن أخطر ما صادفنا تلك الواقعة التي شهدناها في ساحة بلدة “قانا”.
كنا نتحدث إلى نفر من الأهالي وأصحاب الدكاكين، حين عبرت قافلة صغيرة للجيش اللبناني عائدة إلى مواقعها التي جلا عنها المحتل. وسمعنا صبياً “طليعياً” يهتف مستعجلاً بعض أترابه: “هيا، اسرعوا، تعالوا نتفرج على الجيش”!…
ورد صبي آخر مستوضحاً، وسط ذهولنا: “- أي جيش؟!”
كانت الصدمة عنيفة، ولم يلغ تأثيرها التوضيح الذي بادر به الصبي الأول: – جيشنا.. جيش لبنان!
إذن، لقد انفتحت الأرض لأكثر من جيش (خصوصاً وإن “الفدائيين” كانوا آنذاك قد أخذوا يتمركزون في بعض القرى ومغاور الجبال والحصون المهجورة)..
وعدت من الرحلة بحكاية عن “الرقيب حسن” الذي شرف كتيبته عندما نجح في تصيد آلية إسرائيلية قرب جويا، فنال تنويهاً وترقية استثنائية من قيادة جيشه… جيش لبنان.
الجنوب والجيش، لشد ما هي معقدة هذه العلاقة الحميمة التي تكاد تختزل مأساة المنطقة العربية بأسرها منذ أن انفجر الصراع العربي – الإسرائيلي واخذ يحكم مسيرة الأحداث، ويقرر شكل السلطة، وبالتالي طبيعة دورها في الداخل (مع شعبها) وفي الخارج (مع العدو الأقوى منها).
الجنوب فلسطيني الهوى والهوية. فلسطيني الذاكرة والوجدان.
والذاكرة بالتحديد هي مكمن المرض: فهي تختزن صورة أسراب الفلسطينيين الخارجين من أرضهم هائمين على وجوههم وقد أذلتهم الهزيمة وأحنى هاماتهم الافتراق عن الأرض والتاريخ وأنفاس الجدود.
ولأن الجنوبي لا يريد لنفسه مصير الفلسطيني فإنه متعلق بالجيش تعلقاً مرضياً، يريد الجيش ولو قوة بطش ظالمة معه وعاجزة عن دفع العدو أو صده، ويطلبه مع إدراكه إن المؤسسة بتلوينها الفئوي (سابقاً؟!!) يستحيل عليها أن تلعب الدور الوطني الذي يحلم به (وتحلم به، ربما، أكثرية العسكريين)..
والجيش هو المظهر العلني وهو الوجه العملي الوحيد (تقريباً) لاعتراف الكيان بالجنوب، واتساع رحاب “الدولة” لضمه ولو كبعض الملحقات.
من هنا كان للجيش دور سلطوي وإلى حد ما قمعي في الجنوب، حتى من قبل أن تضيف الهزيمة القومية إلى هذا الدور أعباء الذعر من “الإسرائيلي” وتجنب “استفزازه” ولو بالصمت عن اعتداءاته واقتطاعه بعض الأراضي وتصرفه مع “الأهالي” وكأنهم شعب سايب لا دولة تحميه ولا راعي له فيدفع عنه الأذى أو يخفف عنه البلاد متى وقع.
مبكرة هي التهنئة، فهي ستدخر إلى يوم تحرير آخر حبة من تراب الجنوب والبقاع الغربي،
ومع التمنيات للجيش بأن ينجح في دوره، وضمن إطاره الوطني، فيقدم لنفسه ولدولته صورة جديدة ويبني مع أهله علاقة غير عدائية، فإن التوكيد على طبيعة المهمة السياسية لهذه المؤسسة العسكرية ضروري حتى لا يساء الفهم أو يساء التصرف.
وبالمقابل فإن اللبنانيين عموماً يتمنون أن تكون القيادة الفلسطينية قد اتعظت بدروس الماضي القاسية، واستوعبت مجمل التحولات التي أصابت العرب عموماً، وبينهم اللبنانيون وحتى الفلسطينيون، فتتصرف بالمسؤولية الكاملة عن شعبها وعن قضيته القومية التي ما يزال لها في لبنان جمهور عريض… لكنه يكره السلاح والمسلحين، لأية “جنسية” أو تنظيم كانوا ينتمون!
لقد انتهت الحرب في لبنان ومنه،
والعدمي وحده هو الذي يسعى إلى التفجير مع وعيه المسبق بأن ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق جراح الهزيمة والخيبة والإحباط… أي إلى الانتحار المجاني.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان