من الصعب أن يتحول الجيش إلى أمير للمؤمنين!
وإذا كان اللقب الفضفاض يسمح لأي حاكم يسبغه على ذاته بأن يستخدم الدين، وعلى التحديد رجال الدين، لتحريم الحلال وتحليل الحرام، وإدانة أي معارض بجرم الخروج على إرادة الله سبحانه وتعالى وعصيان أولي الأمر، فإن الجيش لا يمكنه اعتبار ذاته تلخيصاً للدين والدنيا معاً، وجامعاً لإرادة الله وإرادة البشر في الوقت عينه.
والمعادلة الصعبة التي يستحيل على حكم الجيش في الجزائر أن يحلها تتلخص في أنه لا يستطيع مواجهة خصمه “الإسلامي” – جبهة الإنقاذ – من موقع غربي بمعنى الغربة عن علاقة الدين بالدنيا في الأرض الإسلامية، كذلك فمن الهزل أن يحاول مواجهته من موقع متقدم أو من مرتبة أعلى إسلامياً، كمرتبة “أمير المؤمنين”، على سبيل المثال لا أكثر.
بل إن “أمير المؤمنين” المغربي قد اضطر في لحظة من اللحظات إلى الاستغناء عن الجيش، مفضلاً “الدرك الملكي”، حتى لا يدخل في مواجهة غير مضمونة النتائج بين القوى المسلحة بالمدافع والطائرات والدبابات وتلك المسلحة بالإيمان والغيبيات والدعوات الصالحات وكل الموروثات التي مسحها العرف بشيء من القداسة. من باب تنشيط الذاكرة فقط: إن الملك الحسن الثاني يتجنب حتى اليوم إقامة عرض عسكري، كما يتجنب ركوب الطائرة ويفضل الباخرة أو اليخت الملكي بقبطانه وبحارته المعروفين منه شخصياً والذين رشحتهم له جهات لا تخطئ في معلوماتها. فصخيرات واحدة تكفي!
وبرغم أن محمد بوضياف قد أمضى ربع قرن أو يزيد في ضيافة “أمير المؤمنين” المغربي، فمؤكد أن الجيش الجزائري لم يستعده ولم يرفعه على رأس حرابه إلى قمة السلطة (ولو شكلاً) من أجل أن يكون “أمير مؤمنين” جديداً في وضع مشكلته الأخطر الآن مع “المؤمنين” الذين يفتقرون إلى “أمير” في مستوى المهمة الصعبة التي تنتظر فارسها المجهول.
الشعارات سماوية، إذن، والعراك على الأرض،
ربما لهذا تتمحور الحرب حول “الجامع” باعتباره نقطة التقاطع بين الأرض والسماء.
و”الجامع” في التراث الإسلامي دار البيعة لأمير المؤمنين، وليس مجرد مكان للصلاة. وثمة من يعتبر أن محاولة قهر الدين وإخراجه من دائرة التأثير في الدنيا وعلى أهلها إنما بدأت بتغيير اسم “الجامع” إلى “مسجد”.
ومصادرة الجامع و”طرد” جبهة الإنقاذ الإسلامي بالقوة منه، والاضطرار إلى احتلال الجوامع بالعسكر وتحويلها إلى أماكن مهجورة ليس شهادة لحكم الجيش، لا في أن إسلامه أفضل من إسلام الإنقاذيين، ولا في أن شعبيته الدنيوية أعظم من شعبيتهم.
ولعل حكم الجيش قد خسر على باب الجامع الحرب مع جبهة الإنقاذ، وإن كان قد ربح الجولة الأولى بشرطة مكافحة الشغب.
الجيش ليس أميراً للمؤمنين، ولكن كتلته الكبرى من “المؤمنين”.
ولا يدري أحد إلى متى يستطيع حكم الجيش الصمود بينما هو يضع الجيش في امتحان قاس مع معتقداته ومع تاريخه ومع بيئته الطبيعية.
ثم إن حكم الجيش يطبق – وبالقوة – على الجزائر الآن كل ما كان ينذر به وصول جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى السلطة من مخاطر.
أي أنه ينفذ فعلياً على الارض، وبالقوة، كل ذلك الذي ادعى أنه سيمنعه بمنعه جبهة الإنقاذ من الاستيلاء على السلطة.
فحكم الجيش يستفرد بالسلطة، ويحتركها بغير شريك، وهذا أبشع ما أثير في وجه جبهة الإنقاذ، حين اعتبر “الخارج” و”بعض الداخل” انتصارها في الانتخابات مقدمة لاستئثارها بالسلطة وإلغاء الآخرين.
مع فارق أساسي: إن جبهة الإنقاذ اقتحمت السلطة بأصوات الناخبين، بينما حكم الجيش اقتحمها فتسلمها بفوهات المدافع والدبابات.
وحكم الجيش يخضع الجميع لمفهوم أحادي الجانب هو: الأمن، ويتعامل معهم عبره، ليس مهماً الطرح العقائدي أو السياسي أو الاقتصادي والقدرة على المساهمة في توفير حل للأزمة الخطيرة التي تعيشها البلاد، بل المهم مدى تسليم الجميع بحكم الجيش والانصياع لضرورات معركته ضد … الأكثرية، وربما ضد مجموع الشعب.
وكان الاتهام المسبق لجبهة الإنقاذ إنها إن هي وصلت إلى السلطة فستفرض مفهوماً أحادي الجانب هو مفهومها لدور الدين في الدنيا، وإنها ستطبق “الحرم” على من لا يقول قولها أو لا يرى رأيها، ولا يسلم بها “اميراً للمؤمنين” بمعنى محتكر السلطات جميعاً والمسؤولية عن الدين والدنيا، عن الأرض والسماء وما بينهما.
كانت التهمة إن جبهة الإنقاذ ستصادر الأرض باسم السماء، وها هو حكم الجيش – وعبر معركة الجامع – يصادر السماء باسم الأرض، ثم ينفرد بحكم الأرض وكأنما بإرادة مقدسة أو بحق إلهي من يخرج عليه يقام عليه الحد!
حكم الجيش في الجزائر يكرر لعبة خطرة طالما اعتمدتها بعض الأنظمة العربية في علاقتها المضطربة والشاذة بالدين، أو على وجه الدقة بالمؤسسة الدينية.
فالنظام العربي، كائنة ما كانت درجة “غربيته” أو بالأحرى تقليده للغرب في المظهر الخارجي لهياكله ومؤسساته، إنما يختزن صورة ما، كاريكاتورية في الغالب، عن “أمير المؤمنين”، ويعامل نفسه على أنه صاحب حق إلهي في السلطة… متى وصل إليها!
إن “غربيته” تنتهي عند حدود الشكل.
وفي القصور الملكية المغربية يتعايش التقليد الشرقي في إسباغ صفات “مقدسة” على شخص “أمير المؤمنين” وذريته، مع الرياش الغربية المأخوذة عن العروش العريقة وصولاً إلى الشوكولا المستوردة من بيوت الخبرة التي لا تزال قائمة وجاهزة لتقديم خدماتها للقائمين بالأمر على الارض، سواء باسم الصليب أم باسم “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، أو حتى باسم الديمقراطية البرلمانية واقتصاديات السوق.
والنظام العربي يستفيد من كون “المؤسسة الدينية”، بوجه العموم، جهاز موظفين، قرارها في يد الحاكم الذي يسمي من بين المشايخ “مفتين” و”أئمة” للمساجد، بمن في ذلك مفتي الجمهورية (وشيخ الجامع الأزهر في مصر).
في الحقبة الأخيرة، ومع تمرد “المسلمين” على المؤسسة الدينية التي باتت تبعيتها للسلطان فاقعة وغير مقبولة ومشوهة للمفهوم التحرري في الدينن أخذ النظام العربي يرعى، خارج نطاق المؤسسة الدينية، “تنظيمات” ذات واجهات شعبية وشعارات متطرفة تستهوي الجمهور وتخفف عن اندفاعته بالمعارضة فتعيده إلى حظيرة النظام…
وفي لعبة الصراع بين الأنظمة العربية تم استخدام هذه التنظيمات “الإسلامية” وذات الوهج “الشعبي” بغزارة. لقد شجعت خمن أجل التوظيف في وجه “الخارج”، ولكنها مع تنامي قوتها أخذت تطالب بدور أو بحصة في حكم الداخل. وكان طبيعياً أن ينقلب عليها النظام الذي رعاها ونماها ورباها، وأن يسلط عليها أجهزة السلطة التي كانت تحركها، وتعرف خباياها وخلاياها وعناصرها الضاربة.
لعل أنور السادات كان النظام الرائد في هذا المجال، وبغرض محدد هو مواجهة الناصريين والتقدميين والوطنيين عموماً بفئات شعبية تتسلح باسم الإسلام وهي تندفع لتؤدي خدمات ثمينة لـ “الرئيس المؤمن”.
وبعد السادات تفاقمت عادة تربية “الشبح الإسلامي” المخيف لكل أولئك الذين يعترضون على “غربية” النظام التي باتت الآن ولاء سياسياً مطلقاً للقيادة الغربية المنفردة: الولايات المتحدة الأميركية.
حكم الجيش في الجزائر يغادر موقع أمير المؤمنين الذي لم يستطع أن يشغله إلى موقع “الحجاج”، ملوحاً بإعلان الطوارئ، حيث يمكنه أن يحكم بسلطات مطلقة توازي صلاحيات أمير المؤمنين ومعه القضاء والقدر.
وجبهة الإنقاذ الإسلامية ستجد نفسها ملزمة لأن تغور في الأرض، فتعمق جذورها فيها، مصورة اضطهادها خروجاً على الدين والإرادة الإلهية وتحدياً للقضاء والقدر.
أما الجزائر فمقدر عليها أن تعيش لفترة معلقة بين السماء والأرض، تدفع من دمها ثمن هذا الضياع عبر الصدام بين مؤسستين غير مؤهلتين فعلياً لصنع الغد الأفضل: واحدة تصادر الغد باسم ضرورات اليوم، وواحدة تصادر اليوم بقوة الأمس وتلقي على الغد ظلالاً قاتمة من غربتها عن الغد … المنشود!
لكأنها محاصرة بين “حجاجين” في غيبة أمير المؤمنين الذي بات خارج العصر… الأميركي و”إسلامه” الذي ظهر قبل يومين على منبر الكونغرس ليفتتح جلسات ما بعد حرب الخليج والانتصار المطلق على المؤمنين وأمرائهم كافة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان