تعود الجنوب أن يدفع – من دمه – الضريبة، بأمل أن يستفيد الوطن،
وها هو الجنوب يدفع من جديد: ثمن الثقة، وثمن المفاوضات المتعثرة، ثمن الفشل العربي إلى حد الانسحاق، وثمن النصر الإسرائيلي إلى حد التباهي بنجاح كلينتون عبر احتفالات بالشمبانيا فوق الميركافا…
104 أصوات للحكومة التي ولدت عبر النار الإسرائيلية التي أجبرت حتى الآن آلاف الجنوبيين على النزوح من قراهم في اتجاه البعيد… حيث الأمن ووعود الحكومة.
التحرير أم الصمود؟!
ذلك كان موضوع الجدال بين الحكومة والنواب، لكن الجدال الذي لا يمكن أن ينتهي لم يوقف النزوح، ولم يمنع الغارات، بل لعله قد تسبب في التظاهرة العسكرية الإسرائيلية المبالغ في علنيتها، والتي بدورها أدت إلى إطلاق المزيد من صواريخ الكاتيوشا بحيث تظل الحرب سجالاً بين غير مهزومين!
النار في الجنوب، والثقة في بيروت، والمعارضة بين جونيه وبكركي، والاسترخاء في البقاع والشمال، أما في الجبل حيث ينتظرون البت بأمر التهجير “الآخر” فلا يشغلهم غير ما يمكن أن يكون بعد إتمام الصفقة المجزية.
كان لبنان قارة بلا حدود، فلا يكاد وسطه يسمع بجنوبه، ولا يهتم جبله لما يقع في شماله، في حين تدوخ عاصمته بين المبدأ والموقف السياسي العملي!
أو كأنما لبنان بلاد من دون أرض،
فالإنسان معلق بالهواء أو بموج البحر، وليس لأرضه قيمة فعلية منها يستمد إحساسه بذاته ودوره في العالم من حوله، قريبه والبعيد.
كأنما السياسة فيه خارج الأرض،
وكأنما السياسيون يهومون في الفضاء، ويستمدون استمراريتهم من انعدام وزنهم الناجم عن عدم ارتباط مصيرهم بأرضهم وما يصيبها.
بين “الصلع المنفرد” الذي يحاولون فرضه، و”الحرب المنفردة” التي يحاول البعض خوضها تعويضاً عن غياب الآخرين مسافة هي باتساع الهزيمة.
فالصلح المنفرد مستحيل، والحرب المنفردة مستحيل آخر، والجنوب – بأهله وأرضه ومائه وسمائه – تائه وهائم على وجهه بين المستحيلين،
وفي الرئاستين جنوبيان، لكن ذلك يزيد من استحالة المستحيل ولا يقرب الممكن، ثم إنه يدمغ الوطنية بطابع جهوي بينما “كل الجهات جنوب”.
حسناً، لقد دفع الجنوب ثمن الثقة بالحكومة،
وهو قد دفع أيضاً ثمن الثقة بالمعارضة التي ترفع شعار “الوفاء للمقاومة”…
وعلينا بعد الآن أن نتعايش مع أسطورتين لكل منهما قوة الحقيقة.
ولكن،
لا يمكن للأسطورة أن تحكم،
اليوم، وبعد الذي جرى بين التشكيل والثقة، يمكن القول أن الأسطورة قد توارت متراجعة أمام قوة الواقع، وإن رفيق الحريري، الرجل المحدد الملامح والمفتوح الإمكانات، قد باشر الحكم بشخصه وبقوة مؤيديه الكثر،
لم يعد رفيق الحريري أملا ينفخون فيه حتى يحولوه إلى وهم،
ولم يعد علاجاً سحرياً يحل مشكلات البلاد والعباد بغير شريك أو رقيب أو حسيب أو معين،
لم يعد فوق الآخرين، يعطي – بغير طلب – ما لم يعطوه، ثم يطالب – بغير سؤال أو انتظار – بما لم يطالب به غيره، فإذا لم يجترح معجزة في كل دقيقة اتهم بالتقصير والفشل.
لقد هبط من مستوى “البطل المنقذ” إلى مستوى “المجتهد صاحب النوايا الحسنة والإمكانات الطيبة”،
وهذا لخيره وخير البلاد،
إنه الآن “شخصية عامة”، لكنه “إنسان” له حسناته وله عيوبه، له مناصروه وله خصومه، قد يخطئ وقد يصيب، وهو في كل الحالات ليس معصوماً وليس عجائبي القدرة،
فالمال ستار العيوب، ولكن إلى حين،
وهو من جهة أخرى، جلاب للعيوب، والأطماع والأحقاد، وما أكثرها في هذا البلد الأمين.
حسناً، لقد نال الحريري الثقة “النيابية”، بعدما كان نال الثقة الشعبية،
بقي أن تنال الحكومة الثقة،
والناس يفصلون بين الحريري وبين حكومته،
وإذا كانوا قد استعجلوا بمحضه ثقتهم فإنهم سيتأخرون في إعطاء حكومته ثقتهم، أقله حتى يطمئنوا أنها “حكومته”، وإنها بمثل قدراته المفترضة.
وعدم إعطاء الصلاحيات الاستثنائية ليس حماية وتأميناً لمجلس النواب ودوره فحسب، بل إنه أيضاً حماية للحكومة ورئيسها الحريري.
فالحكومة رجل مفرد، حتى إشعار آخر،
أما المجلس فيستحيل تلخيصه بفرد،
ونجاح واكيم ليس نشازاً، حتى لو اتهم بالاستعجال وبالتطرف وبالتفرد وباستخدام الأسلحة الثقيلة جميعاً في الجولة الأولى، مما يضعف من حظه في ربح الحرب،
كذلك فليس “حزب الله” قوة المعارضة الوحيدة، وليس الموقف من الجنوب موضع الاعتراض الأوحد،
إنها البداية فقط.
إنها الفاتورة الأولى.
والفواتير الأخرى ستجيء تباعاً.
وكل من أعطى الثقة بالأمس سيقول غداً: لقد ملكناك وفوضناك فلم تحسن استخدام التفويض،
الكل سيطالب غداً بمؤخر الصداق،
وقد يحمل المعارضون، غداً، الحريري مسؤولية الدم المسفوح في الجنوب الجريح.
كأن لبنان بلاد بلا أرض،
والمجلس يحاول، ولو عبر الأقلية، توكيد علاقته بالأرض وناسها،
والمهم أن تنجح الحكومة في توكيد الارتباط بالأرض، فلا يظل سهلاً اتهام رئيسها بأنه مغترب، أو اتهام أعضائها بأنهم أغنى من أن يطلبوا المساعدات من الخارج.
المهم أن ينزل الجميع إلى الأرض، فهناك مصدر الثقة، أمس واليوم وغداً، وإلى دهر الداهرين، آمين،
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان