ليس في الجزائر، بعد، أمير للمؤمنين يحكم بقوة النسب ويستمد منه صفة “ظل الله على الأرض”.
لكن القرائن تتزايد يوماً بعد يوم على وجود ظل لأكثر من “أمير مؤمنين” فوق الحدث الجزائري الذي يكتسب توقيته أهمية استثنائية.
وتجزم أوساط دبلوماسية مطلعة وموثوقة عادة بأن خطة الانقلاب قد حظيت بمباركة جهات ثلاث توزعت الرعاية والتسويق للانقلاب ومن ثم رعايته بعد حدوثه وهي: الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المغربية الشريفية والمملكة العربية السعودية.
وفي حين تولت الأجهزة الأميركية الاهتمام المباشر بمؤسسة الجيش، فإن القصر المغربي تولى الاهتمام ببعض قوى المعارضة وتجميعها لتوفير”سند شعبي” ما للحكم الجديد، في حين تولت الدوائر السعودية توفير السيولة الضرورية وتأمين التغطية الإعلامية اللازمة إضافة إلى دور مميز في شق صفوف جبهة الإنقاذ الإسلامي، وهو دور بدأ قبل الانقلاب ولم ينته بقيامه.
لم يكن أي من هذه الجهات ضد حكم الشاذلي بن جديد، لكن الخوف المشترك من مصول طرف يرفع راية لاإسلام إلى سدة السلطة في الجزائر هو الذي أثار تخوف الجميع (والبعض يذكر الشاذلي بين هؤلاء) من خطر تداعيات غير محدودة قد تمتد من موريتانيا إلى الباكستان، ولذا تم التوافق على “انقلاب وقائي” يحصن الأوضاع القائمة على هذه المساحة الهائلة التي صدعتها حرب الخليج، ريثما يتم إعداد خطة استيعابها في “النظام العالمي الجديد”.
ربما لهذا كان الأيمر بندر بن سلطان هو “ضابط الارتباط” أو منسق الأنشطة ليس فقط حول الانقلاب في الجزائر، وإنما في كل ما يتصل بالخطة الأميركية لتوظيف السمعة الإسلامية للسعودية و”خادم الحرمين” في حركة ضبط التغيير و”تنظيمه” بحيث لا يتحول إلى سيل جارف.
ولقد قدم القصر المغربي “الوجه المدني” المطلوب للانقلاب العسكري، إذ أخرج من بطن التاريخ اللاجئ إلى ضيافته المجاهد القديم محمد بوضياف، ونفض الغبار عنه فاستعاده الانقلابيون بوصفه “رجل الإنقاذ” الذي حرمه رفاقه “الثوار” من الإسهام في خدمة بلاده فأدانوه وأبعدوه.
إذن فالانقلاب يقدم نفسه بوجه “شهيد حي” ليس عليه من المآخذ مثل ما على جميع الذين شاركوا في السلطة على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة.
وفي لحظة المواجهة تقدمت السعودية بخدمتها الثمينة: حركت المتعاملين معها داخل جبهة الإنقاذ، كما وفرت “أدلة” تستفزهم ضد رفاقهم “الذين اشتراهم الإيرانيون”، فإذا الارتباك يضرب أطنابه داخل هذه الجبهة التي أغوتها لعبة السلطة والتسرع في قبولها مجتزأة وشكلية، عبر الانتخابات البلدية بداية، ثم عبر الانتخابات النيابية، وساد الضياع صفوفها خصوصاً وإنها تفتقر إلى قيادة مؤهلة ومدربة وذات تجربة جدية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد طاردت الاتهامات عباس مدني حتى إلى معتقله، وردد من يريد التشهير به حكايات لا يعلم إلا الله مدى صحتها عن “تورطه في علاقات غير واضحة” مع النظام السعودي… واستخدم هذا “التورط” المزعوم كسبب لعدم حماسته لمغامرة النظام العراقي في الكويت، وتأخره في الالتحاق بجمهوره الذي كان “صدامياً” حتى العظم قبيل هبوب “عاصفة الصحراء”ز
طبعأً ثمة من يتعرض، ولو بالغمز، إلى وزير الخارجية الجزائري الأخضر الإبراهيمي وينسج الحكايات عن علاقته الوثيقة بالسعودية والتي توطدت عبر دوره الباهر في لبنان، مستدلاً على وجود “السعودية” داخل الحكم الانقلابي في الجزائر، بقدر ما هي موجودة داخل المعارضة.
وبغض النظر عن مدى الصحة أو الدقة في هذه الروايات فالمؤكد أن الأمير بندر بن سلطان هو رجل المملكة والقيم على سياستها في الخارج… والخارج هنا يشمل الأقطار الإسلامية عموماً، ومعظم الدول العربية إن لم يكن كلها،
وفي معلومات أصحاب العلم أن الميزانية الموضوعة تحت تصرف بندر بن سلطان تصل إلى ألف وأربعماية مليون دولار سنوياً، وإنه يشكو من أن “حكم العواجيز في الرياض” – أي أعمامه – لا يتفهم حيوية دوره وضرورته بالنسبة للحليف الأكبر (الولايات المتحدة الأميركية) ونظامه العالمي الجديد ولذلك فهو يقتر عليه في موازنته ويحاول مناقشته في وجوه استخدامها.
حكم الجيش في الجزائر محصن، إذن، ببركة “أمير المؤمنين في المغرب”، و”خادم الحرمين”، وصحبه من سدنة الكعبة المشرفة في المملكة العربية السعودية، ودائماً تحت الرعاية الأميركية.. وربما لهذا تتميز فرنسا غيظاً، وتكاد تجهر بمعارضتها للانقلابيين ثم تخشى اندفاعهم بعيداً عنها أكثر مما ابتعدوا فعلاً، فتعود إلى محاولة ترميم جسور الحوار معهم باعتبارها “الأقرب والأعلم والأقدر على التأثير داخل المجتمع الجزائري”، في إشارة واضحة إلى “علاقاتها الخاصة” مع البربر وإلى علاقاتها التاريخية مع بعض كبار الضباط (القدامى) في جيش التحرير والمتحدرين من صلب مؤسستها العسكرية.
ربما لهذا يتوغل حكم الجيش في طريق محفوفة بمخاطر الحرب الأهلية غير هياب ولا وجل.
فعلى أرض الجزائر ستكون “المنازلة الكبرى” الأخرى مع “التيار الإسلامي” الهائل الشعبية والمثقل بفوضويته وضياعه وافتقاده إلى الرأس – القائد وإلى العمود الفقري الناظم لجمهوره العريض.
وإعلان الطوارئ هو إعلان فعلي للحرب، على هذا التيار الذي يكاد يستحيل عليه النصر، والذي ستكون لهزيمته أصداء مدمرة على مجمل الحركة الإسلامية أو الاصولية في المشرق العربي والعالم الإسلامي، من السودان حيث التجربة هشة ومربكة، إلى إيران – الثورة حيث الحصار قاس وشديد و”النموذج” يتناقص بريقه – عبر التجربة الصعبة، كل يوم.
إن واشنطن لا تعطي نفسها فقط حق عزل الحكام في المنطقة العربية (والإسلامية) وإدانتهم بتهم شتى أولها “الإرهاب” وآخرها “القمع والاضطهاد والتنكر لحقوق الإنسان”، بل هي تعطي نفسها أيضاً حق تعيين الحكام الجدد، وليس باسم الديموقراطية والليبرالية واقتصاد السوق فحسب وإنما كذلك باسم الإسلام الحنيف!.
ولديها ختمان لاثنين من الحكام المموهين بالألقاب العزيزة على قلوب المسلمين، يمهران لها إجراءاتها ويباركانها باسم “ظل الله على الأرض” و”الأمر بالمعروف والنهي عن المكنر”.
والحدث الجزائري مفتوح بعد، ومع كل شمس جديدة ستتكشف فصول أخرى من الاحتمالات التي أدت إلى تقديمه على ما عداه، باعتباره المعركة الفصل في حرب وقائية شاملة تستهدف إخضاع الإسلام والمسلمين في أربع رياح الأرض لمقتضيات النظام العالمي الجديد.
… مع التذكير بأن إسرائيل هي دائماً في موقع المستفيد الأول من حرب الخليج كما من الحروب الأخرى التي ستقع كتتمة منطقية لها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان