.. ومن درس الكويت يمكن استخلاص الكثير من العبر التي يفترض أن تكون أمام النواب الجدد الذين يقتحمون “مجلس الأمة” لمباشرة مهمتهم في إعادة بناء “الإمارة الثانية” بما يحصنها في وجه “العواصف” التي يمكن أن تهب عليها من البحر والجو كما من بحر الرمال البلا ضفاف:
فالخطأ في سياسة الدول الصغرى قائل،
الخطأ يكسر التوازن الهش الذي يقوم عليه “الكيان” الذي يستحيل أن يتحول إلى “وطن” فهو كيان لأن ظروفاً قاهرة تمنع أو تعطل أو تؤخر انصهاره في دولته الأصلية (بالوحدة).
ومتى انكسر التوازن الهش بات طبيعياً أن يجيء “الاحتلال”،
و”التحرير بالحماية” لا يلغي واقع “الاحتلال” وإن غير هوية المحتل ومبرراته، فليس ثمة احتلال صديق واحتلال معاد.
والحماية احتلال مهما تفاصح واضعو الحيثيات أو تشاطر المسوقون،
والهوية الكيانية تستفز المحيط، ولا تحمي من خطر اجتياح يظل احتماله قائماً لا ينتظر إلا اختيار اللحظة السياسية المناسبة في ضوء قراءة دقيقة للتحولات الكبرى واختلال ميزان القوى الدولي، أو ما يتعارف على وصفه العامة بـ “اختلاف الدول”.
بمعنى أدق فإن “الكويتية” ستظل أضعف من “العراقية”
ومبررات وجود الكيان الكويتي يجب أن تبقى “عربية”، واستمراره متصل باستمرار الأحوال العربية التي تجعل الوحدة هدفاً مقدساً وإن يكن مستحيل التنفيذ لافتقاره إلى القوة المؤهلة لبنائه.
أي أنه ليس انفصالاً لحساب الخارج، بل هو نتيجة لعجز الداخل (العربي) عن إنجاز مهامه القومية.
إنه ليس هرباً من الهوية والالتزام القومي، وليس استئثاراً من قبل القلة بثروة الأمة، ولكنه ظرف قاهر يفرض منطقه على الجميع، فإذا ما انتهت أسبابه سقطت نتائجه، ولدى الجميع أيضا.
والحكمة في البساطة، على طريقة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فهو قد حسم مسألة “الحماية الأجنبية” حين صارح أهله بالقول: “من لم يحم نفسه لم تنفعه حماية الآخرين”.
ولست القوة العسكرية هي الوسيلة الفعالة في حماية الذات، بل هي قد تكون في حالات معينة أقصر طريق إلى الانتحار.
وهذا ينطبق على الدول الصغرى كما على الدول المتوسطة أو “الكبرى” بالمقاييس الإقليمية.
أول شروط حماية الذات فهم المحيط، والانسجام مع منطقه العام، ومع قانون التوازنات الدقيقة الذي يحكم مصالحه ويدرجها في سياق لا يستعدي “الأقوياء” ولا يعرض مصالحهم لخطر جدي.
ولقد راعى الشيخ زايد قواعد هذا المنطق لتأمين الحماية لدولة الإمارات العربية المتحدة، فوازن بين مصالح أهله وبين مصالح جيرانه الأقوياء، أخذا بالاعتبار قانون التوازن بين المصالح الكبرى عموماً.
راعى شروط حسن الجوار، حتى وهو في موقع المعتدى عليه، مدركاً أن حسن النية بين أسباب القوة، واستمر ملتزماً بقواعد العمل القومي حتى وهو يرى غيره يخرج عليها لكي يمنع تبرير “انفصالية” الآخرين بمسلك انفصالي يصدر عنه فيؤخذ عليه.
لذا يبدو موقف دولة الإمارات قوياً الآن: فهو قد حفظ حسن الجوار مع جارته الكبرى والقومية، إيران، حتى في ظل حرب حاول “بطلها” أن يضفي عليها صورة الحرب القومية… وهو اليوم قادر على مواجهة الإيرانيين ليس بقوة عسكرية تستهلك الثروة كلها من دون أن توفر الشعور بالأمان، بل بتاريخ من الحرص على حسن الجوار يكشف طبيعة التحرش الإيراني الراهن، خصوصاً وإن ذلك الحرص لم يؤثر على التزامه بموجبات العمل القومي فكان المبادر الأول إلى مساعدة أي طرف عربي يحتاج إلى مثل هذه المساعدة.
بالمقابل فإن الحكم الكويتي يحاسب الآن، وبقسوة، على خروجه على الضمانتين الأساسيتين معاً: حسن الجوار وموجبات العمل القومي.
كذلك فإن الحاكم العراقي الذي أخذته نشوة الإحساس بالقوة، بالمقارنة مع جيرانه الخليجيين الضعفاء، قد انتهى سوء استخدامه لقوته تلك (في المكان والزمان والهدف) إلى تدمير العراق وتفتيت وحدته الوطنية.
وإذا كان الشيخ زايد قد أثبت بعفويته وحسه البسيط والمباشر حسن قراءته لخرريطة التوازن والمصالح، فإن الطرف الإيراني مطالب بالاتعاظ بالدرس العراقي: فثمة من هو أقوى من مستعظم قوته قياساً إلى من هم أضعف منه.
ويعكس حرص دولة الإمارات على جارتها الكبرى إيران، حتى وهي مخطئة وعياً بأهمية التاريخ والجغرافيا، فالحكام يتبدلون ، والسياسات قابلة للتغيير، أما الأرض فباقية لا تزول، وكذلك التراكم من العلاقات الإنسانية بين الجيران، خصوصاً إذا ما تعزز بروابط الدين والمصالح المشتركة.
والحرص لا يلغي تنبيه الجار إلى الخطأ، ولكنه يتجلى في الوسائل التي تعتمد لمثل هذا التنبيه، وهل هي مستفزة بحيث تأتي بالحرب، أو هي تستهدف تيسير السبيل إلى الحل المنشود.
و”التدويل” بما فيه اللجوء إلى التحكيم الدولي في المسألة موضوع النزاع، يعكس حرص الإمارات على جارتها إيران، وهو يأتي في باب “انصر أخاك ولو ظالماً… وذلك برده عن ظلمه”.
ومثل هذا الحل يوفر الحماية لإيران، أيضاً، وليس لدولة الإمارات وحدها، وإلا فإن سيف “المناطق الأمنية” يستطيل بحيث يهدد الجميع.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان