إنه زمن “الأصولية”. إنه زمن العودة إلى توظيف الدين، أو المشاعر الدينية في السياسة.
وفي لبنان بالذات يلعب نمط معين من “الأصولية” ذات الطابع الديني، بل الطائفي، هذا الدور منذ حوالي ربع القرن… ألم يطلق “الحلف الثلاثي” في انتخابات العام 1968 موجة عالية من الهياج السياسي، على قاعدة شبه دينية صورت لأبناء الطائفة المارونية أنه سيجري استبدال “سيدة حريصا” بتمثال لجمال عبد الناصر “العربي والمسلم”؟!
… وهي موجة بعكس اتجاه الموجة التي أطلقتها معارضات الحلف الرباعي أو الخماسي المتصدية للمقاطعة الآن بشعارات تصور الرئيس السوري حافظ الأسد وكأنه سينجز ما قصّر عنه عبد الناصر من إلحاق لبنان بدولة الوحدة (؟) التي تكاد تختفي حتى من الأحلام.
هذه المرة جاء دور “الأصولية الإسلامية”، بفروعها المختلفة، داخل الشيعة كما داخل السنة،
فالتطرف يستسقي التطرف، والأصولية تلد الأصولية المضادة، خصوصاً وإن القوة الأقوى في المنطقة تستند إلى أصولية ثالثة (يهودية) لعلها هي “أم الخمينيات” والنموذج الأرقى للنجاح السياسي (والعسكري) الذي يمكن أن يتحقق باستغلال الحماسة الدينية.
… وفوز “الأصوليين الإسلاميين” في الانتخابات النيابية في لبنان هو، بداية، شهادة للنظام السياسي فيه، ولقدرته الهائلة على التكيف وامتصاص الصدمات.
كذلك فإن هذا الفوز هو، في المقابل، الامتحان الأقسى لهذا التيار الذي ولدته الخيبات ونمته مرارة الهزائم المتوالية، وبرره فشل التيارات السابقة عليه، وفيها الكياني شبه العنصري، والقومي المتذبذب بين المورث العاطفي وبين الحقائق المادية القاسية للحياة السياسية المعاضرة، وفيها أيضاً الاتحاد السوفياتي و”منظومته” القائمة على حراب الجيش الأحمر.
ولسوف يسيل الكثير من الحبر في تحليل أسباب نجاح الأصولية في لبنان، علماً بأنه ليس نجاحها الأول، كما أنه لن يكون نهاية العالم ولا حتى نهاية هذا النظام الذي فيه الكثير من خصائص الأسفنج، إذ يمتص ويستوعب ظواهر تجافي منطقه، لكن مرونته غير محدودة.
فهذا النظام المؤهل لإطلاق الدعوات إلى التغيير، واحتضان القوى المبشرة بالثورة الحمراء ولو عن طريق الكفاح المسلم، هو – بذاته – مقبرة الثوار. وهو ينهيهم بغير قتال، ومن دون أن يستخدم “شرطة مكافحة الشغب” أو “الأمن المركزي”. إنه يقتلهم بإغراءاته التي لا تقاوم، وبامتناعه عن مواجهتهم مباشرة. إن الهامش الديموقراطي صمام أمان، فكيف إذا ما تعزز بحرية المبادرة الفردية واقتصاديات السوق والسرية المصرفية؟!
لقد تبادلت الأصوليات المواقع، داخل النظام، فخرجت الأصولية صاحبة السبق والريادة والرعاية الدولية ودخلت أصولية “طارئة” ومستجدة تأتي مثقلة بالأعباء التي قصرت عن النهوض بها حركات ومنظمات وأحزاب كانت تدعو إلى التغيير بالثورة وانتهت إلى حمل راية النظام الذي اتسع لها حتى وهي تطالب بإسقاطه ولو باللجوء إلى العنف الثوري.
وبين النواب الجدد، وخارج دائرة “الأصوليين” من حمل السلام وناضل لإسقاط هذا النظام وهو الآن على استعداد لأن يقاتل – وبالسلاح – من أجل دوام نعمته عليه!
وصحيح إن عدد “الأصوليين” قد يتجاوز العشرة، وربما وصل إلى خمسة عشر نائباً في المجلس الجديد، وإنهم – إن هم اتفقوا – سيكونون أكبر كتلة نيابية (وعقائدية) فيه، لكن امتحانهم الحقيقي قد بدأ مع تمتعهم بالألقاب الجديدة وليس عبر المعركة الانتخابية التي خاضوها، وبسهولة نسبياً مقابل خصوم مهترئين!
إن امتحانهم سيبدأ مع خروجهم من “الحالة الشبحية” التي كانت تحيطهم بقشرة صلبة يتعذرمعها كسرهم.
لقد اقترع الجمهور لـ “الحزب”، للتنظيم، وكان كمن يرد الجميل لمن أعانه في أوقات الشدة،
كذلك فقد اقترع الجمهور “ضد” السابقين، ضد الذين فازوا بأصوات الناخبين ثم تنكروا لهم وسلكوا مسلكاً مرفوضاً منهم وخذولهم فلم ينفعوهم في أمور معيشتهم ولا هم حموهم من شرور الانحراف السياسي والانجراف وراء أغراض المحتل الإسرائيلي.
وليس سراً أن قلة من الناخبين تعرف مرشحي “حزب الله” أو “الجماعة الإسلامية” أو “جمعية المشاريع الخيرية” – أو “الأحباش”، كما تسميهم العامة – معرفة شخصية.
لقد أعطوا أصواتهم لأصحاب الهوية الواضحة والصريحة تحاشياً للمنافقين وتجار الكلمات والوعود البراقة، فالناس لم يعودوا يطيقون التمويه والتلاعب بالألفاظ والمواربة في إعلان الاتجاه.
وبقدر ما كان الذين ذهبوا في المعارضة إلى حد المقاطعة صريحين تماماً في الإعلان عن وجهتهم، كذلك كان الذين تقدموا إلى الانتخابات كمرشحين ومعهم الذين اقترعوا لهمز
لقد تواجهت “الأصوليتان” في الشارع، و”ديموقراطياً” و”سلمياً” حتى هذه اللحظة… وهذه شهادة حسن سلوك وجدارة لهذا النظام الفريد!
ثم إن الناس قد قالوا، وبأفصح لسان، إنهم ليسوا ضد الأحزاب، بالمطلق،
إنهم ضد نمط معين منها، هو ذاك الذي ثبت فشله في الممارسة، فلا نصر الناس في الحرب، ولا هو نفعهم في السلم.
هم ليسوا ضد الحزبيين، ولكنهم ضد الذين استغلوا الحزبية فتاجروا بشعاراتها ذات الوهج، ولعبوا بعواطف الجمهور، ثم باعوا أجداث الشهداء واستغلوا اليتامى والثكالى والأرامل لتكريس الثروات وبناء مصالح شخصية ضخمة،
قال الناس إنهم مع الحزب الذي يعيش همومهم، ومع الحزبيين الذين ينتمون إلى واقعهم الاجتماعي والاقتصادي ، والذين يتحركون بينهم ولا يكتفون بإصدار الأوامر والتوجيهات والبيانات الفخمة العبارة والتي لا تكلف إلا الحبر اللازم لكتابتها.
… ولعل البطريرك الماروني يراجع نفسه الآن، مستشعراً شيئاً من الندم لأنه تطرف أكثر مما يتحمل مركزه ودوره المفترض.
لعله يرى أنه متسبب، والذين ورطوه وحاصروه ثم ماشاهم ليقودهم، إنه قد اندفع بعيداً فاستولدا موجة من التطرف المضاد أو أعطاها شيئاً من المبرر “الميداني”.
فبقدر ما كانت “الأصولية المسيحية” ترى أن الانتخابات مصدر خطر على ما تبقى من موقعها الممتاز في السلطة، كانت “الأصولية الإسلامية” ترى في الانتخابات فرصة لاكتساب “شرعية” تبرر احتلالها للموقع الذي تعتبر أنها تستحقه في صلب النظام.
لقد دخل “العصاة” إلى الحرم، في حين أن بعض مؤسسي النظام يخرجون منه وعليه.
… وتلك هي جولة جديدة من الحرب، وإن بأسلحة أخرى،
لكن مصيرها متعلق بما تقرره “أصوشلية” ثالثة تخوض الحرب الحقيقية والشاملة على طاولة المفاوضات في واشنطن،
والنظر إلى البعيد يفسر ما يجري من حولك،
وما أكثر ما يجري ، وما أخطره، لاسيما إذا ما مددنا البصر بعيداً ما بين العراق وما جاوره شرقاً وحتى ليبيا القذافي التي تحتفل الآن بعيد ثورتها الثالث والعشرين، وما جاورها غرباً،
والغد مثقل بالأحداث، فلنرصده.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان