ليس أقوى من ذاكرة ادوار دجيرجيان إلا ذاكرة الأخضر الإبراهيمي ومن بعده الأمير سعود الفيصل، وسبحان من يحيي العظام وهي رميم: فلقد أعيدت إلى التداول “اللجنة العربية الثلاثية”، وعاد أو أعيد أو استعيد الحديث عن “الصندق الدولي لإعادة إعمار لبنان”.
كان مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط هو أول من نشط ذاكرته المثقلة بأعباء الإمبراطورية الكونية، فاستخرج منها تلك اللجنة التي أدت قسطها للعلى فنامت (أو أنيمت) بعد إنجاز اتفاق الطائف، وهو إنجاز تاريخي بغير شك، ولكنه بات – بعد كل ما جرى – مجرد وثيقة تاريخية يتم الاستئناس بها، لمن يرغب وفي وقت الضيقن أو التشهير بها لمن يريد اختصار طريق المعارضة ويستحلي الشعار الكبير المحرض على الانقلاب كأداة لتغيير شامل.
أما الثاني فكان وزير خارجية الجزائر الذي افترضنا أن هموم بلاده وأحزانها قد شغلته عنا فإذا هو “لبناني”بعد، باهتماماته، وربما لأنه حقق هنا ما يعجز عن تحقيقه في بلاده الجريح يتمنى لو يتفرغ للمسامرات العربية – الدولية حول لبنان.
وأما الثالث فكان وزير خارجية المملكة العربية السعودية، الأمير ابن الملك، والذي اتسع وقته (الضيق عادة) لأن يخص لبنان بلفتة عبر التذكير باللجنة (التي هو عضو فيها)وبالصندوق (الذي كان يفترض أن يكون الأول بين مؤسسيه والأعظم دوراً في تمويله)…
والسؤال الذي يفرض نفسه فوراً: ترى ماذا أو من يؤخر تحقيق الحلم وإنشاء الصندوق؟! فهذا هو “الرعي” يلح في المطالبة، وها هو “الوسيط” أو “المسهل” أو “الداعية” يجأر بالشكوى من التأخير، ثم ها هو الممول المفترض يستغرب أن تكون السنة الثالثة على اتفاق الطائف قد انقضت والصندوق ما زال في خبر كان،
لعل اللبنانيين هم الذين أعطوا اللجنة الثلاثية الإذن بالانصرف؟!
ولعلهم هم الذين اعترضوا على إنشاء الصندوق وحملوا على المساهمين الأسخياء أو شهروا بهم فجعلهم ذلك يعدلون عن تقديم هذه الصدقة لمن لا يستحقها!
أتراهم يريدون إعادة الماضي كله، ودفعة واحدة، لتصحيح المسار؟!
هل ترى عودة اللجنة هي الشرط لإنشاء الصندوق… وهذا سؤال في السياسة وليس في الاقتصاد؟!
هل يرى أصحاب الشأن أنه قد آن الأوان لوقف “التفرد” السوري بالشأن اللبناني، وإن المدخل لعودة “الشركاء” الذين أحلتهم ظروف الاقتتال الداخلي في موقع “الأوصياء” على اللبنانيين، هو تجديد الحديث عن الصندوق الدولي لإعادة الإعمار؟!
هل يلوحون بالدولار – المنقذ، بينما الأزمة الاقتصادية تطحن اللبنانيين، وأوضاعهم المعيشية البائسة تجعلهم مستعدين للقبول باي شيء، لينفذوا من ثغرة “الضائقة” إلى “مركز القرار”؟!
أم إنها “الجزرة” تدلى أمام وجه الحكم ليندفع في الاتجاه الذي رسموه، فيفتح ملف الوجود العسكري السوري لقاء أن يفتحوا كيسهم المنتفخ، فتعطي ويعطون، أو يمتنع فيمتنعون، بينما يمتنع الوفد الإسرائيلي عن ذكر كلمة “انسحاب” ويكاد يساوم الوفد اللبناني المفاوض في واشنطن على تقاسم حق السيادة مع السلطة اللبنانية على الأراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي؟!
… ومن العسكر إلى الدور السياسي، فإذا ما خرج العسكربات ممكناً طرح “المشاركة” وبديهي أن الجزائري أو المغربي ليسا في وضع يمكنهما من المطالبة بحصتيهما وإن كانا قادرين على تجييرها للأميركي مباشرة أو عبر وكيله السعودي (وهذا من شأنه، لو تم، زيادة الحصة الإسرائيلية والدور الإسرائيلي في لبنان، بينما المفاوضات دائرة تحت الرعاية الأميركية..)
وهل هذه التمهيدات التي تحبك بخيوط من حرير في بيروت ومن حولها، تندرج في هذا السياق، بحيث تجيء الحكومة الجديدة “إنقاذية” بهذا المعنى: أي حكومة الصندوق الدولي وإعادة الانتشار السوري وعودة “العرب” إلى لبنان ومعهم بعض “المعارضات” و”الطوائف” التي طالما حظيت بالرعاية الملكية؟!
وهل هي عفوية، تلك الاماءات والايحاءات والتلميحات التي تربط بين الخروج السوري (أقله من بيروت) وبين دخول الدولارات والمساعدات والهبات والقروش التي من شأنها بناء لبنان جديد بالكامل، وعبر متعهدين ومقاولين محترفين تعودوا أن يسلموا البناء جاهزاً وبالمفتاح؟!
ربما… ولكن هل من الضروري أن يشتد الضغط على الرعايا إلى حد خنقهم، من أجل المبادرة من ثم إلى إنقاذهم؟!
أم أن الجميع على مذهب هنري كيسنجر الشهير لا يحبون الشغل على البارد، ولا بد من قدر من السخونة و”حروب التحريك” لكي يهبوا كأهل نخوة لنجدة الملهوف؟!
وكم يريد هؤلاء ثمناً لنجدتهم الكريمة المرتجاة؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان