ليس أقسى على النفس من أن يستخدم واحدنا، مرغماً، “اللغة الطائفية” السائدة بكل مفرداتها السمجة والمهينة لكرامتنا كبشر.
إنها تضطرك لأن تلغي إنسانيتك، أولاً، ثم إنها تذكرك بأنك ليست مواطناً في وطن، بل هي تخرجك أيضاً من “السياسة” كما يفهمها الخلق في أربع رياح الأرض.
… وتصور، من بعد، كيف يمكنك أن تحل معضلة سياسية بلغة هي في حقيقتها، وبمفرداتها والمضامين، من خارج السياسة ومجافية لمفهوم السياسة.
بعد هذه المقدمة الاعتذارية، ندخل صلب الموضوع متوجهين بهذه الكلمات إلى “العقل الماروني” (كأنما للماروني عقل غير عقول أبناء الأديان والطوائف الأخرى!).
وبداية الحديث استعادة لحوار طريف إلى حد الاستهجان، لكنه شنيع الدلالات، جرى مؤخراً بين الرئيس سليمان فرنجية وبين القائم بالأعمال (أي المستشار الأول في السفارة الأميركية ببيروت) المستر سمبسون.
كان المستر سمبسون مكلفاً بنقل عرض محدد إلى الرئيس الأسبق مضمونه ما يأتي:
“- بغض النظر عن التعارض بين آرائنا وآراء فخامتك، فإن الإدارة الأميركية يهمها أن تبلغكم إنها لأسباب سياسية تراها لا تستطيع الموافقة على انتخابكم رئيساً لجمهورية لبنان. إن الأمر لا علاقة له بشخصكم أو بزعامتكم أو بجدارتكم في تمثيل بلادكم، وقد سبق لكم أن مثلتموها في موقع الرئاسة.
“إن بلادي ، ولأسباب سياسية عامة تتصل بمنطقتكم ومسار الأحداث فيها، مضطرة لأن تعترض على انتخابكم، وأن تعتبره “خطأ أحمر”، ستقاومه بقدر ما ترى أنه يخدم استراتيجية قوى معادية للولايات المتحدة واستراتيجيتها في المنطقةز
“لكن بلادي، وتدليلاً على حسن نواياها تجاه شخصكم وزعامتكم وتقديرها لمكانتكم في البلاد فوضتني أن أبلغكم إنها مستعدة لأن تقبل بأي مرشح تسمونه، ولأن تسهل أمر وصوله إلى الرئاسة، حتى من داخل محيطكم المباشر، بل ومن أسرتكم ذاتها، وأنا مخول بإبلاغكم إننا مستعدون للموافقة على انتخاب نجلكم روبير فرنجية ذاته، إذا ارتأيتم ذلك!
ولسوف يسجل للرئيس فرنجية إنه رد بالجواب المناسب على هذا العرض المهين… إذ قال للموظف الأميركي، ما مفاده:
“- قبل المناقشة في أساس الموضوع، دعني أوجه إليك سؤالاً يا مستر سمبسون.. من تراك تحسبني؟! أتحسبني شاه إيران حتى تجيئني بعرض التنازل عن منصب الإمبراطور لأبني استبقاء للعرض في ذريتي؟! أنسيت، يا مستر سمبسون، إننا في بلاد تسمي نفسها وتسمونها جمهورية ذات نظام ديمقراطي برلماني، وإن “الرئيس” فيها، كما في أي بلاد يسود فيها مثل هذا النظام ينتخبه مجلس النواب… قليلاً من المنطق، يا خواجا”!
لكي تكتمل الصورة عن طريقة تعاطي “العقل الأميركي” مع المسألة اللبنانية عموماً، ومع “العقل الماروني” على وجه الخصوص، من الضروري أن نستذكر الوقائع الآتية:
1 – إن جماعة الأميركان في بيروت، ومن بينهم موظفو السفارة ما انفكوا يشيعون منذ مطلع هذا العام أن “رجل” العهد المقبل هو بالتأكيد العماد ميشال عون، وإنهم سيؤمنون وصوله إلى سدة الرئاسة مهما كلف الأمر لأنه الوحيد القادر على التصدي للمشكلات التي تواجه لبنان، من خلال موقعه على رأس المؤسسة العسكرية “الموحدة” بعد و”الأقوى” من كل الميليشيات، وبالتحديد الميليشيا الكتائبية.
ولقد صدر عن العماد طوال الشهور الثمانية الماضية ما يكاد يشي بكلمة السر الأميركية هذه، فقال بألف صيغة وصيغة إنه “جنرال الحل” وإنه “وإن كان الأخير زمانه الذي سيأتي بما لم تستطعه الأوائل”، وإنه “الرئيس حتماً”، وإنه “البديل الصحي” و”العلاج الضروري لمختلف وجوه الخلل في الجسم اللبناني”.
بل لقد صدرت عن العماد عون مواقف وأقوال مستهجنة من عسكري، فكيف من قائد للجيش في نظام يفترض إنه (ولو بالشكل) ديمقراطي برلماني،
قال ميشال عون إنه إن قدر له الوصول فسينسف هذا النظام الفاسد من أساسه،
وقال إنه قادر وخلال ساعات فقط على التشطيب على الميليشيات الكتائبية جميعاً (“القوات اللبنانية” و”الزمر المسلحة التابعة لأمين الجميل”، وحتى “الحرس المسلح التابع لبيت الكتائب المركزي”).
وقال إنه مستعد لأن “يلم” المتصهيني والمرتبطين مادياً وسياسياً مع خصوم سوريا في المنطقة الشرقية فيبعث بهم إلى دمشق لتتصرف في أمرهم،
وقال كثيراً من الكلام المشتهى سماعه “إسلامياً” إلى حد إن بعض ضيقي الأفق أسموه “جنرال الحق”، وليس فقط “جنرال الحل”،
كل ذلك بتحريض أميركي مباشر، على حد ما فهم الناس، بل وعلى حد ما أبلغوا، ولو بطريقة مواربة،
2 – فالمستر سمبسون نفسه بعث برسائل واضحة، عشية الموعد المفترض لانتخاب الرئيس، 18 آب، لعدد من القيادات الإسلامية يبلغهم فيها بصورة شبه رسمية إن بلاده تدعم وصول الجنرال عون لأنها ترى فيه الرجل الأنسب لحكم لبنان في هذه المرحلة.
3 – خلال الفترة نفسها، اعتمدت واشنطن لعبة “التشاطر” في عرض الأسماء على دمشق ومعها، وتبني اللوائح التي كلف بتقديمها أمين الجميل بالتنسيق مع “القوات اللبنانية”. وفي مواجهة امتناع دمشق عن قبول المشاركة في هذه اللعبة وإصرارها على القول إنها تدعم – ولأسباب مبدئية – ترشيح رجل وحيد في لبنان هو سليمان فرنجية، لم يتورع الأيمركيون عن تقديم عرض محدد إلى دمشق: طيب ، نحن مستعدون لطي صفحة الأسماء المقدمة من قبل الحكم ومن معه، ونعرض عليكم الاتفاق على مرشح تزكية هو الجنرال عون!!
ولقد أعيد طرح هذا العرض أكثر من مرة وكان تاريخ العرض الأخير: الأربعاء في 17 آب!
4 – في الوقت ذاته أيضاً وأيضاً كان عدد من المرشحين للرئاسة يتحركون وفي ظن كل واحد منهم إنه الأعز على قلب واشنطن، والمفضل والأثير لديها.
بل إن بين هؤلاء المرشحين من كان يقرأ على الناس خلاصات لمحاظر لقاءات مع مسؤولين أميركيين كبار تفيد إن واشنطن معه قلباً وقالباً، وإنها لن تسهل وصوله فحسب بل هي ستسحب له جيش الاحتلال الإسرائيلي وستوفر له أموالاً لا تأكلها النيران لكي ينهض لبنان من كبوته ويعيد وضعه على طريق التقدم والانتماء إلى العصر وتعويض ما فاته عبر السنوات العجاف للحرب المدمرة!
5 – إلى أن أزف موعد جلسة الخميس 18 آب، وأدركت واشنطن إن “اللعبة الديموقراطية” قد أفلتت من يدها، نتيجة لإعلان سليمان فرنجية ترشيح نفسه للرئاسة، وإن توافر النصاب لا يعني إلا إعادة الرئيس الأسبق إلى سدة الحكم بعد 12 سنة على رئاسته الأولى،
عندها أعلنت واشنطن، وبالفم الملآن، وعبر وسائل الأعلام جميعاً، ليل الأربعاء/الخميس 17/18 آب إن النصاب لن يكتمل وإن الانتخاب سيعطل ديموقراطياً، وإنه لن يكون للبنان رئيس جديد في ذلك اليوم.
استعدنا هذه الوقائع جميعاً، وهي غيض من فيض، لكي نتوجه إلى “العقل الماروني” بالأسئلة “السياسية” الآتية:
1 – كيف ينظر هذا العقل إلى رئاسة الجمهورية ثم إلى الجمهورية (ونظامها الديموقراطي البرلماني)؟!
*هل هو يراها غنيمة يفوز فيها بسبب شطارته الخارقة،
*أم هو يراها حقاً الهياً مقدساً لا ينقض ولا يأتيه “التغيير” لا من خلفه ولا من أمامه.
*أم ارتاها يحسبها منحة من الأجنبي (امتيازاً كما في عصور الصراع بين الاستعمار التركي وبين الاستعمار الغربي)، يمكن سحبها على هذا العصر حيث الدنيا غير الدنيا، وحيث الشعوب كائن حي يفعل في الأحداث ويتفاعل مع تطوراتها وموجباتها فيبدل ويعدل وقد يغير في قرارات القوى العظمى فارضاً الاعتراف بوجوده ومراعاة احتياجاته المشروعة.
** وإذا كانت الرئاسة منحة تأتيه من خارج، فهل “الجمهورية” (التي أعلنها غورو بشحطة قلم، كما يحلو لبعض غلاة المتغربين أن يقول) منحة هي الأخرى للماروني، يفعل فيها وبها ما يشاء بغير ضابط لحركته وتصرفاته؟!
** أم تراها إقطاعية خاصة لمالكها الأرض ومن وما عليها… فالبشر أرقاءوأقنان وعبيد عليهم واجب الطاعة (أبدياً) للسيد الوحيد، وليس لهم عليه أية حقوق من أي نوع، بل هم كما “البهائم” يبيعهم إذا شاء ويسبتقيهم إذا شاء، يعملون له ولا يتكلمون، يخضعون لنزواته جميعاً بلا اعتراض أو تأفف، يسبحون بحمده إناء الليل وأطراف النهار ويشكرونه على كرمه إذا ما رمى لهم بفتات مائدته العامرة؟!
** ثم، إذا كانت الرئاسة منحة من الأجنبي فإن بوسع هذا الأجنبي أن يسحبها متى شاء أو يلغيها.
كذلك هو الأمر مع الجمهورية، فإن الذي صنعها بشحطة قلم يمكنه أن يلغيها (هو أو أي أجنبي أقوى) بشحطة من قلم آخر!
فكم بالحري أن يستطيع “المواطن”، مارونياً كان إن غير ماروني، أن يستخدم حقه في الاعتراض ورفض الخنوع الأبدي لما ارتأه، ذات يوم، مستعمر غاصب ودخيل، حماية لمصالحه، وليس لوجود اللبنانيين (بمن فيهم الموارنة، أو مصالحهم)،
2 – ألا يدرك هذا العقل الماروني الشاطر، أكثر من اللازم أحياناً، إن مجرد القبول بهذه المنحة ينتقص من وطنيته، ثم من جدارته بالرئاسة والحكم؟!
أكانت بلا معنى تلك الدروس التي لقنها المستعمر نفسه (الفرنسي) للعقل الماروني، حين استبعد الماروني عن رئاسة الجمهورية التي فبركها قلم غورو، في أيامها الأولى، كعقاب للقيادات المارونية التي اختلفت في ما بينها على اختيار الرئيس وكاد خلافها يتسبب في صراعات دموية داخل الطائفة ذاتها؟
لقد نصب الفرنسي في سدة رئاسة الجمهورية اللبنانية الأرثوذكسي والبروستانتي وشبه الملحد، ليثبت أن من يعطي يأخذ، وأن من يقبل المنحة لا يستطيع أن يرفض وقفها أو إلغاءها…
وها هو “العقل الماروني” يعرض طائفته لمحنة مشابهة مع مستعمر آخر، هو الأميركي الآن، الذي يعرض على أهل النظام الديموقراطي البرلماني تحويل الطائفة المارونية إلى أسرة إمبراطورية حاكمة، تتناسل رؤساء كابراً بعد كابر.
ومنطقي إن الذي يتصرف مع الرئاسة بهذه الخفة لا يجد ما يمنعه من التصرف مع الجمهورية وبها خفة مشابهة.
وإذا ما صدقنا التحليل القائل إن الأميركيين أصحاب مصلحة مباشرة في تعطيل الانتخاب الرئاسي الآن وإرجائه بضعة شهور، في انتظار تطورات إقليمية ودولية من شأنها أن تضعف الدور السوري في المنطقة كلها وفي لبكان بالذات (الانتخابات الإسرائيلية وتوقع فوز الأكثر تعصباً وتطرفاً، والانتخابات الأميركية، والتحولات التي يمكن أن تصيب القضية الفلسطينية، ثم النتائج العملية لانتهاء حرب الخليج بشبه هزيمة إيرانية)…
إذا ما صدقنا هذا التحليل يصبح مشروعاً أن نتساءل ليس فقط عن مدى اهتمام الولايات المتحدة بالموارنة وبحقهم الالهي في المنحة الرئاسية بلبنان، بل كذلك عن مدى الاهتمام الأميركي بمصير الجمهورية ذاتها بملايينها الثلاثة ومن ضمنهم بطبيعة الحال الموارنة بالذات!!
طريف أن يعرض المستر سمبسون تحويل النظام في الجمهورية اللبنانية إلى ملكية وراثية، إن ذلك شهادة على الديموقراطية الأميركية ذاتها، وهو أيضاً شهادة على مدى احترام السادة الأميركيين للنظام الديموقراطي البرلماني في لبنان، الذي ما انفك رموزه يتباهون بانتمائه إلى العالم الحر المعقود اللواء لقيادة حامية الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم، الولايات المتحدة الأميركية.
ثم إن هذا العرض يكشف بطريقة نافرة ومنفرة إلى أي حد تحتقرنا الولايات المتحدة الأميركية.
فهي تنفخ بعضنا فتجعلهم أباطرة،
وهي تلغي بعضنا الآخر كناس، كبشر لهم حقوقهم الطبيعية.
إنها تلغي مواطنية الماروني بالتعامل معه وكأنه صاحب حق مقدس في الرئاسة، إذا فقدها ضاع وانتهى منهياً معه “وطنه” لبنان،
وهي تلغي مواطنية غير الموارنة بالتعامل معهم وكأنهم “حشرات” أو “حشد من العبيد” لا رأي لهم في نظامهم أو رئيسهم أو حتى مصير بلادهم،
إلى أن ينتهي بنا هذا السياق؟!
إذن لا حل ولا مشروع حل ولا علاج ولو مؤقتاً للأزمة الطاحنة في إمبراطورية المستر سمبسون في لبنان،
إذن، لا مجال لتفادي الكارثة بحصر الحرب وتجميدها والحد من تفاقم نتائجها المدمرة، بل هي ستتجدد ملتهمة ما تبقى من عافية البلاد المنهكة بالنزف المستمر وما تبقى من أرزاق عبادها المرضى بسرطان الطائفية.
لا حل من الخارج،
لا حل لمنحة الرئاسة وبالكيانات التي تفبركها شحطات قلم الأجنبي،
لا حل بتكريس الواقع المهين القائم بأن البعض فوق المواطن بكثير فهم في موقع الإمبراطور والبعض الآخر تحت المواطن بكثير لأنهم في موقع العبيد والارقاء الذين بالكاد يسمح لهم بحق التواجد فوق سطح الأطرض.
الحل في الداخل،
والحل في الداخل،
والحل بأن ننظر في أمرنا باعتبارنا جميعاً ضحايا المنحة الأجنبية والإرادات الأجنبية،
وأول من يطلب منه التنبه إلى الكارثة المقبلة هو ذلك العقل الماروني الرديء الذي سمح بتفاقم الخطر إلى حد العجز عن مواجهته.
وليس العذر إننا قد تأخرنا،
فإن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً، على حد ما يقول المثل. الفرنسي!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان