تتلاشى مهمة “الملاك” إذا اختفى “الشيطان” واندثر،
… وها هي “إمبراطورية الخير” الأميركية (!!) تتصدع مع طي آخر علم من أعلام “إمبراطورية الشر” التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي الراحل.
إن جورج بوش قد يكون أول “إمبراطور” فرد في التاريخ الحديث، لكن إمبراطوريته، ستكون الأقصر عمراً في تاريخ الإمبراطوريات جميعاً.
فمع تهاوي النظام النقيض ستبرز حتماً كل المشكلات والأمراض المستعصية ووجوه الخلل والعجز في النظام “المنتصر” فقط لأنه استطاع أن يصمد فترة أطول.
هذا ينطبق على الغرب كله، بمختلف تطبيقات نظامه الرأسمالي – البرلماني – الديموقراطي: من ألمانيا ذات المستشار والفائض الهائل في ميزان المدفوعات، إلى فرنسا التي تهزها رياح التغيير ولو في اتجاه الأسوأ أي العنصرية والخروج من تراث ثورتها، إلى بريطانيا التي تمارس التغيير على طريقتها، بدم بارد، وبلعب لا ينتهي على الألفاظ والمسميات وحقائق الحياة… الأوروبية!
كل الناس، في أربع رياح الأرض، يبحثون عن الجديد، عن المختلف، عن الخارج عن مألوف يومياتهم وما تصنم في أنظمتهم وما تحجر في أفكارهم ومعتقداتهم السائدة.
وفي بلاد النموذج المبهر والتي حقق نظامها سلسلة من الانتصارات بلا حروب (ففي الفضاء كانت السيادة للأغنى وفي الصحراء كانت الهزيمة للأغبى)، من الطبيعي أن يبدأ الزلزال مباشرة مع سقوط العدو العقائدي والاستراتيجي والطارح نفسه كبديل لسائر الأنظمة في استيلاد أو بناء الغد الإنساني الأفضل.
فالذين انتهوا إلى التظلل بأفياء النظام الأميركي هم الذين كانوا يرونه من بعيد كالحلم أو كالسراب، بينما هم يرزحون تحت أثقال أنظمتهم الحديدية والمتخلفة والمتسترة بشعارات نبيلة تفضح عجزها أكثر مما تبرر استمراريها.
لقد افترضوا أن الولايات المتحدة الأميركية هي المدينة الفاضلة وهي النعيم الإنساني حيث الحريات والرفاه والعدل والقوة غير المتناهية إضافة إلى الهمبرغر والشيكلس وماكدونالد والسي. ان. ان.
وهكذا جاء ضحايا النماذج الأخرى الفاشلة زحفاً إلى حيث النجاح المطلق كما يبدو لمن في الخارج: أي جاء الذين لم يتبق أمامهم خيار ملتحقين بهذا الكاوبوي الذي استطاع بعبقريته إلحاق الهزيمة بكل من عارضه أو تحداه أو نافسه أو زاحمه سواء في الرياضة أم في التسلح أم في سباق الفضاء أم في السيطرة على موارد النفط ومختلف أنماط الإنتاج الصناعي بالشركات متعددة الجنسية.
لم يأت أحد بمحض اختياره، ولم يلتحق أحد سوي. إنما جاء المهزومون والضحايا والذين فقدوا اليقين.
جاءها الهارب من عقيدة تطبيقها مناقض لشعارها وكتابها، والمتنصل من دين يحيله دعاته إلى العالم الآخر لتحقيق أمنياته الغوالي في حين إنه إنما يطلب اللقمة الحلال والفرصة الحلال فقط وفي هذه الأرض الدنيا،
ها هو ميخائيل غورباتشوف، آخر أمين عام لأعظم الأحزاب في الأرض طرا، حزب دكتاتورية البروليتاريا وباني “دولة الثورة الاشتراكية العظمى” وقائد معسكر الاشتراكية، بوصفها مستقبل العالم، ونصير الشعوب المقهورة في معركتها للتحرر والخلاص من الاستعمارين القديم والحديث…
ها هو ميخائيل غورباتشوف مجرد “سائح” ضيف يقدم بنفسه البرهان على صحة منطق رونالد ريغان (المفكر المبدع والتغييري الفذ) حول ضرورة إسقاط “إمبراطورية الشر”،
… ولكن، أين موقع “إمبراطورية الخير” وقد انتهت إلى مواجهة التحدي التاريخي عارية، أي بمواصفاتها هي وليس بوكنها غير تلك التي تهاوت وسقطت؟!
أين الإنسان في “إمبراطورية الخير”؟!
… الإنسان بفكره وعقله ومشاعره وعواطفه ووجدانه، بأحلامه وهوسه بالشعر والموسيقى وارتعاشات الحب الأول، واينه أيضاً بمصالحه وبحقه في التقدم واستخدام هذا التقدم لما يحقق سعادته وكرامته ويبني له عالم السلام الدائم؟!
حتى من قبل محنة لوس أنجلوس كان واضحاً إن الولايات المتحدة الأميركية، بنظامها الحاضر وتطلعاتها وممارساتها، هي أبعد ما تكون عن الحلم الإنساني المشروع،
لكن هذا الانفجار الوحشي لبعض طبائع النظام قد أسقط ادعاءات “إمبراطورية الخير” بأسرع مما تهاوت أركان “إمبراطورية الشر” المزعومة،
لكأنها خزان هائل للأحاقد والعنصرية والاستكبار واحتقار الإنسان الطبيعي.
… ولكأن مهمة “الجيش” الأميركي، وطليعته المارينز، هي تأديب الشعوب الملونة أو المستضعفة في الداخل كما في الخارج،
ولكأن القضاء الأميركي للأبيض (ذي الأصل الأوروبي والايرلندي تحديداً) وليس للملونين وغير الأوروبيين عموماً في الداخل كما في الخارج، فالأسود “الأميركي” أو الكوري “الأميركي” أو المكسيكي “الأميركي” لا يحظى برعاية أفضل من الليبي العربي أو العراقي العربي أو الفلسطيني العربي وصولاً إلى اللبناني العربي المكتوي بنار الدولار الأميركي.
ما زال “المكتشف” الأبيض، الوافد على هذه القارة من خارجهأ، يطارد أهلها الأصليين فيقتلهم أو يستعبدهم،
وهو يطاردهم في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوطانهم الأصلية أيضاً، مع إصراره على أن ينتزع منهم الاعتراف بأنه “الملاك الحارس” حتى لا نقول “المحرر” أو المخلص.
لكن الدم يغطي وجه “الملاك” المزعوم إضافة إلى يديه
وصورة “الملاك” أو “رسول الخير” التي لم تتطابق أبداً مع صورة “الأنكل سام” تتلاشى تاركة الكاوبوي مكشوفاً وهو يحاول احتجاز الكرة الأرضية بحبله الطويل ذي الأنشوطة القاتلة،
… وعلى الإنسان في كل أرض أو يواصل الرحلة التي لا تنتهي بحثاً عن أحلامه،
وربما عليه أن يستعجل الحد من “حرية” الكاوبوي هذا بأكثر مما استعجل القضاء على النظام الحديدي المموه بالشيوعية، لأن “الملاك” الأميركي هو الوجه البشع الآخر لـ “الشيطان السوفياتي” الذي يرفض الرحيل وحيداً،
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان