كأنما يراد لك، أو يراد بك أن تقتنع بأن لا أمل لك في بلادك، وأن لا أمل لبلادك في استعادة روحها ودورة حياتها الطبيعية.
لا أمل في الحكم لأنه مثقل بما يغل يديه ويحد حركته ويشل قراره فيفرض عليه الجمود، والجمود موت بالاهتراء،
ولا أمل في الإدارة لأنها مفرغة من عناصرها القيادية، يديرها الشغور والتكليف وكلاهما أعطى مزيداً من العمر لقوى الأمر الواقع وعصابات أمر الدفع،
ولا أمل في القضاء لأنه تلقى ضربات موجعة خلال الحرب، هشمت سمعته و”هشلت” العديد من رجالاته و”أدبت” الباقين فألزمتهم حدوداً لا يخرجون عنها حتى لا “يحاكمهم” فيقتص منهم أصحاب المصلحة بتغييب العدل والعدالة والمرجع الصالح.
ولا أمل في دورة اقتصادية سليمة، لأن الخارج لن يعطي، ولأن مال الداخل تم تهريبه إلى الخارج ولن يعود، فالنهب المنظم لا يحتاج إلى رأسمال،
ولا أمل في الحكومة الفاقدة الحد الأدنى من الانسجام والمفتقدة إلى رؤيا وإلى خطة وإلى مال… وما تبقى من مال بالكاد يلبي الحد الأدنى من احتياجات أعضائها الكثر وأصدقائهم النواب،
ثم إنها حكومة لا تحاسب، بل ولا تناقش، وتطمئن إلى أنها باقية مهما ارتكبت من خطايا وأخطاء، ومهما قصرت في أداء المهمة التي بررت المجيء بها،
ولا أمل في المجلس النيابي طالما شطب دوره الأساسي كسلطة رقابة أو مرجعية للحساب، وتدريجياً أخذ يتحول إلى شريك للسلطة التنفيذية، وفي بعض الأحيان إلى شريك مضارب، لا يعطيها إلا إذا أعطته بقدر ما يريد وحيث يريد.
ولا أمل في الأحزاب المسفه تاريخها بسبب ما لحقها من تشوهات خلال الحرب… فقد اعتبرت، بمجملها، أداة الحرب، ولفظت، في حين أقطعت السلطة لجميع الذين كانت لهم أدوار أخطر من إطلاق النار. فليس سراً أن حكم الطائف هو شراكة مضمرة بين كل المنتفعين بالحرب، سواء من موقع سمسار الممول، أو من موقع الواجهة المحلية للقوى الأجنبية المستفيدة، أو من موقع مضلل الجماهير وسمتثير غرائزها بالمهيجات الطائفية والمذهبية.
يريدونك أن ترحل أو تدفن نفسك في أكوام همومك ونفايات المدينة التي “استقيلت” من دورها فهجرت منه، وهي تبحث عن نفسها عبثاً فلا تجد غير نتف مبعثرة، قد تذكر بشيء من الماضي ولكنها بالتأكيد لا تنفع لبناء مستقبل.
في كل لحظة يخاطبك من في موقع المسؤولية ليقولوا: لا أمل!
وكل يوم يفاجأون بوجودك، ويلتفتون إليك شزراً ولسان حالهم يقول: أيها العنيد كبغل، أما زلت هنا؟! ألم تيأس بعد؟!
في كل لحظة يرمونك بكذبة جديدة، بهرطقة دستورية أو قانونية، بافتراء على حقوقك، بحجة الظروف الاستثنائية!
يصدعون رأسك بحديث المساعدات، ويمطرونك بأرقام فلكية عن حجم الهبات والحسنات والصدقات ثم القروض التي ستنهال شلالاً من الولارات على البلاد،
ثم، وقبل أن تنتهي “النشرة” يزفون إليك الأخبار المفرحة!! عن أن مصرف لبنان قد اضطر إلى التفريط بجزء من احتياطي العملات الصعبة التي يملك، ليحاول حفظ سعر صرف الليرة بمستواه البائس الحالي.
وتنطلق الألسنة الفصيحة تروي فضائح الرؤساء والوزراء والأصهار والأنجال والكناين، وكم تكلف خزينة الدولة وقوت المواطنز
ليس في الحكم، بمختلف مؤسساته، رجل واحد فوق الشبهات،
ولا يصدر عن الحكم رقم واحد يمكن الوثوق به واعتماده جدياً في أية دراسة أو تقييم… فلا النفقات محددة ونهائية، ولا الإيرادات مضبوطة ومسلم بأنها – إن تم تحصيلها فعلاً – قد وصلت سالمة إلى خزينة الدولة.
خذ حكاية قانون التعويضات الشهير: لقد تراوحت الأرقام وما تزال تراوح بين الأربعة مليارات والستين ملياراً، مع احتمال الزيادة لا النقصان!
خذ مهزلة الموازنة و”القرار” المتأخر، باستعادتها لإعادة النظر فيها وضغطها تحت شعار عصر النفقات وشد الحزام الخ!!
إنها مهزلة غير مسبوقة في أي مكان أو زمان،
والعذر في استرجاع أقبح من الذنب في تضخيم أرقامها بحيث جاءت تهديداً جدياً بإفلاس البلاد: وعدونا بالمساعدات فأدخلناها في الموازنة (وكأنها وصلت فعلاً) ثم بطلوا فلم يبق أمامنا غير حذفها، وبالتالي ضغط النفقات!
ثم إن “المخرج” أسوأ من العذر والذنب معاً، إذ هو سيتخذ شكل “مشاورات” بين رئيس المجلس النيابي والنواب، واستطراداً مع الوزراء والحكومة!!
أي أن المجلس الذي لم يناقش الموازنة أصلاً، والتي درجت “العادة” أن يجري إقرارها فيه بمادة وحيدة (وفي الغالب بعدما يخرج النواب ويهرب النصاب!!)، لن يناقش – كمجلس – الحكومة على قرارها الجديد الناقض لقرارها القديم!!
الأرطف أن الحكومة تتهرب من مواجهة بعض نتائج سياستها، أي ما اتصل منها بالأزمة الاقتصادية – الاجتماعية الخانقة، فيتدخل رئيس المجلس النيابي و”يتوسط” بين النقابات وبين “الحكومة”، فيقنع الاتحاد العمالي العام بصرف النظر عن الإضراب، مما يمكن الحكومة من تمضية “ويك أند” هادئ وسط الثلوج والضباب وسيول الأمطار والقرى المعزولة والطرقات المقطوعة.
والأدهى والأمر أن الحكومة قد عزمت على زيادة الضرائب والرسوم، لتزيد في أعباء المواطنين، وبالذات منهم صغار الكسبة وممن تتواضع مداخيلهم حتى لا تكاد تكفي ثمناً لقوات عيالهم أسبوعاً.
وفي بلاد الناس تكتسب الضريبة مفهوماً وطنياً أذلها وظيفة اجتماعية، ومن ثم اقتصادية، فبواسطتها يتم التقريب بين الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، ويتم تخصيص مبالغ إضافية للمشاريع والخدمات الحيوية كالإسكان والمواصلات والاتصالات والضمانات الصحية الخ،
أما في بلادنا فالأغنى لا يدفعون، بل يقدمون جداول مزورة “بخسائرهم”… وتقبل الدولة جداولهم التي تعرف إنها مزورة، ثم “تفكر” معهم بكيفية تعويضهم عن خسائرهم إذا ما تم التفاهم على توزيع الحصص بين النصاب وشاهد الزور أو بين المزور ومبرر التزوير والقابل بالمزور!
… ولو أن الأغنى يدفعون ما يتوجب عليهم، بدءاً بضريبة الدخل مروراً بضريبة التركات وانتهاء بضريبة الأملاك المبنية، لكانت الخزينة بألف خير، ولكانت الليرة “ذهبية” ولكانت “الدولة”… دولة!
لا أمل، طالما استمرت الاستكانة واللامبالاة والاكتفاء بإظاهر القرف والاستنكاف والتلطي وراء العجز عن التغيير.
لا بد من صوت أول، لا بد من خطوة أولى، لا بد من نقطة بداية توحي بإقفال ملف التسليم بالخطأ وكأنه قدر، والتغاضي عن الارتكابات والتجاوزات والفضائح وكأنها سنة الحياة، وقانونها الذي لا يقبل المراجعة أو النقض،
لا بد من محاولة للتغيير، للخروج من هذا المستنقع الأسن، الذي يبث الجراثيم والسموم فيفسد الجو والناس،
فلماذا لا تكون الانتخابات النيابية هي الصوت الأول والخطوة الأولى والمحاولة الجدية للتغيير؟!
… ورداً على المتخوف من الضحايا المحتملين لمعارك قد تنشأ بين النخابين، بتحريض من المرشحين أو تعصباً لهم، يمكن المقارنة بين تلك الضريبة الدموية المفترضة التي قد تذهب بحياة بعض المواطنين، وبين الوضع الراهن الذي يهدد جميع المواطنين بخطر داهم قد يذهب بدولتهم ومستقبلهم إضافة إلى الطموحات وأحلام السلام الوطني الراسخ.
إن التذرع بحجة سخيفة كهذه هو اتهام لهذا الشعب بأنه قاصر ومتخلف ومعاق ولا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه.
… واستمرار الحكم على ما هو عليه يشكل الحجة الدامغة على صحة هذه الفرية الساقطة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان