“كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا”…
فها هي الدول العربية، شأنها شأن أقطار أخرى كثيرة في العالم الثالث وفي ما كان يعرف سابقاً بـ “المعسكر الاشتراكي”، تعرض “القطاع العام” للبيع، وتستدرج رؤوس الأموال الأجنبية “لشراء” ما تيسر من مؤسسات الإنتاج في البلاد ومن المنشآت العامة التي كانت ملكيتها لـ “الشعب”.
وبعيداً عن الجدوى الاقتصادية، فإن الترجمة السياسية المباشرة لهذه المبالغة في بيع المرافق العامة ووسائل الإنتاج لمن يملك المال تعني تماماً التمكين للهيمنة الأجنبية ورهن البلاد ومصادرة قرارها الوطني بحجة الانتقام من التجربة الاشتراكية الفاشلة.
لقد سبق النظام العراقي إلى مثل هذه السياسة، وتدور في مصر ومنذ فترة طويلة معركة شرسة لتفكيك القطاع العام وبيعه بالمزاد لكل قادر على الشراء، سواء أكان أجنبياً أو متمولاً محلياً، وبغض النظر عن مصدر أمواله وإن كانت قد جاءته من المخدرات أو من استغفال مواطنيه وسرقة أموالهم بعد تمويه نفسه بلحية وسبحة وجلباب و”زبيبة” على الجبين تظهره كمتدين لا يقرب “الحرام” ولا يتعامل بالفائدة والربا، ويهتم لأمر المستضعفين، من غير أن يمنعه ذلك كله من “شفط” مدخراتهم وتهريبها إلى الخارج.
ويبدو أن النظام الانقلابي في الجزائر يعتزم تكرار التجربة بفك القطاع العام وبيعه، بل إن بعض الشائعات والأخبار المسربة وصلت إلى حد القول أنه قد يبيع بعض حقوق النفط وأغزرها تحديداً “حقل حاسي مسعود”.
النقاش هنا ليس اقتصادياً، إنما هو سياسي: لقد وقع التأميم وقام القطاع العام أصلاً لمنع رأس المال المستغل من ممارسة الاحتكار بحيث يزيد من غنى الأغنياء ومن فقر الفقراء، وكذلك توخياً إلى التحرر الاقتصادي الذي هو شرط لتحرير القرار الوطني،
وفي الماضي كان القهر الاستعماري هو الذي مكن للهيمنة الاقتصادية للأجنبي ولحليفه الطبيعي رأس المال المستغل والاحتكارات في الداخل، ومعهما الوسطاء والسماسرة لأي جنسية انتموا، وهم في الغالب الأعم بلا جنسية، أو بالأحرى بلا ولاء لأي جنسية ولأي أرض،
اليوم تعرض الأنظمة القائمة بلادها على الأجنبي، تبيعه مؤسساتها المنتجة، بأبخس الأثمان، وتمكن الأفاقين والنصابين والنهابين من لقمة الناس، متسببة في إفقار “العامة” أو “الشعب” أكثر فأكثر، ومفرطة بالقرار الوطني واستطراداً بالسيادة والاستقلال والكرامة الخ.. فهذه عملة بائدة، ولا بد من استبدالها باقتصاديات السوق وحرية انتقال رؤوس الأموال وزيادة الحوافز والإغراءات لرأس المال الأجنبي كي يرضى بأن يتكرم فينهب خيرات البلاد وقوت شعبها.
دار الفلك دورة كاملة، وفي ظل النظام العالمي الجديد ثمة بلاد كثيرة معروضة للبيع، بأرضيها وسمائها وبحورها، بالعلماء من أبنائها والناجح من مؤسساتها ومنشآتها العامة المنتجة، بأوسمة أبطالها وأجداث قادة تحررها، بمعالمها السياحية وإنجازاتها الثقافية والحضارية عموماً.
أليست تلك هي الطريق إلى “حقوق الإنسان”؟!
أفليس هكذا تكون الديموقراطية؟!
كأنما قدر على هذه الأمم خيار من اثنين أحلاهما مر: أما الجوع والقهر والمهانة مع شكليات ديموقراطية لا تملأ معدة ولا ترفع راساً، وأما قدر من الشبع والكرامة الوطنية مع كثير من العنت والكبت والعسف والأذى الشخصي؟!
أما من طريق ثالث، أما من سبيل للتقدم إلا بإلغاء إنسانية الإنسان، وإلى الحرية الديموقراطية والليبرالية إلا بإلغاء الوطن؟!
والحمد لله أن لبناننا معروض للبيع من دون أن يتضمن سجله ما يشينه كعورة الاشتراكية والتأميم والقطاع العام،
مع ذلك فحتى القليل القليل من المؤسسات المنتجة موضع تشهير يومي حتى “نقرف”منها فنبيعها للمشتري الوحيد الحاضر لاستيعاب كل شيء من العقار إلى الدولار!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان